أحمد الشلقامي - المجتمع

في دراسة نشرتها موقع مجلة رؤية التركية للدكتورة رانية طاهر حملت عنوان "الدور الإقليمي التركي في ظل ثورات الربيع العربي"، تناولت الدراسة استعراضاً للدور التركي وتطوره مابعد الثورات العربية ثم التحديات التي أثرت على فاعليته فيما بعد نتائج الربيع العربي وثوراته وربما تعثر بعضها كما في مصر وليبيا واليمن، بفرضية أساسية وهي  أن المتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدتها المنطقة، وشهدها العالم، ساهمت في وضع تركيا أمام خيارات إستراتيجية، تتأرجح ما بين غياب وعزلة عن عالم عربي وٕاسلامي يرتبط بها جغرافيًّا وتاريخيًّا، وبين تعنت ورفض أوروبي لا يقبل بها أو بمشاركتها، ولكنه يخشى تركها وانفلاتها. فما كان من تركيا إلاَّ أن اختارت عمقها الإستراتيجي مع الإبقاء على حبل الود موصولًا مع غربها الأوروبي.

وقد انقسمت الورقة لخمس محاور :

أولًا: العوامل المحفزة للدور التركي.

ثانيًا: محددات الموقف التركي من ثورات الربيع العربي.

ثالثًا: تداعيات الربيع العربي على الدور التركي.

رابعًا: تقييم الدور الإقليمي التركي في منطقة الشرق الأوسط.

خامسًا: مستقبل الدور الإقليمي التركي في أعقاب ثورات الربيع العربي.

أولاً: العوامل المحفّزة للدور التركي

وهو المحور الأول للدراسة قسمتها الدراسة لعوامل نابعة من البيئة الدولية وهي متمثلة في:

- دور الولايات المتحدة الأمريكية: وهو الدور المقترن بأبعاد جيوسياسية خاصة موقع وحضارة وتاريخ تركيا بجانب سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة.

- الاتحاد الأوروبي: وهو الدور الذي اعتبرت الورقة أن تركيا حريصة على دعمه عبر استمرار محاولات الإنضمام للاتحاد الأوربي برغم الفشل الذي لازم تركيا منذ عقود للإنضمام إلا أن الورقة أكدت على أن تركيا أصبحت تملك فرص أفضل للتفاوض متمثلة في علاقات إقليمية متوازنة ووضع جغرافي مهم وعلاقات عربية أكثر ثقلاً.

ثم عوامل نابعة من البيئة الإقليمية والمتمثلة في:

1- حالة الفراغ التي تسود المنطقة بعد انهيار النظام الإقليمي العربي.

2- تمتلك الدول العربية مفاتيح أساسية في الصراع الجيوبوليتيكي العالمي، ولا يمكن تصنيف إمكاناتها فقط في خانة موارد الطاقة من نفط وغاز. فالدول العربية تطل على المضايق المتحكمة في السلسلة البحرية الأهم في العالم وبالتالي تركيا بحاجة لنفوذ هناك.

3- تتمدد تركيا إقليميًّا في المنطقة بتكاليف سياسية أقل بكثير من العائد السياسي الذي تجنيه، بحيث إن الجدوى الإستراتيجية من لعب هذا الدور تكون متحققة تمامًا في حالة الشرق الأوسط. وتكفي هنا الإشارة إلى الدور الإقليمي الإيراني، الذي استثمرت فيه إيران ماليًّا وأيديولوجيًّا لبناء شبكة من التحالفات مع الدول والحركات والأحزاب السياسية لمدة ثلاثين عامًا.

4- أن الشرق الأوسط هو المجال الجغرافي الوحيد في جوار تركيا الذي يمكنها فيه لعب دور إقليمي دون الاصطدام بقوى عالمية، بالمقارنة بالقوقاز حيث النفوذ الروسي، أو في ألبانيا والبوسنة حيث نفوذ دول أوروبا الوسطى.

5- الصورة الإيجابية لتركيا عند شرائح عربية واسعة، والترحيب غير المسبوق لأوسع القطاعات العربية بدور تركي في المنطقة لأول مرة منذ قيام الجمهورية عام 1923.

ثم  عوامل نابعة من البيئة الداخلية والتي يمكن إجمال تلك العوامل فيما يلي: وقد ربطت الدراسة بين الدور التركي وفلسفة ورؤية حزب العدالة والتنمية الحاكم حيث اعتبرت أن ركائز الرؤية التي لدى العدالة والتنمية عن تركيا والمتمثلة في ( أولا: العثمانية الجديدة -  ثانيا: الكمالية – ثالثا: الديغولية التركية).

ثانيًا: محددات الموقف التركي من ثورات الربيع العربي

رأت الدراسة أن موقف تركيا اتسم بالمرحلية وبحسب طبيعة توجهات تركيا الجديدة في ارساء الديمقراطية ودعم الشعوب وقسمت الدراسة الموقف التركي من الثورات العربية لأربع  مراحل مختلفة هي:

أولًا: مرحلة التحرك الحذر أحادي الجانب.

ثانيًا: مرحلة المشاركة المترددة.

ثالثًا: السياسة الاستباقية الأحادية.

رابعًا: مرحلة العودة لانتهاج مزيد من الحذر.

وباستقراء طبيعة المقاربة التركية إزاء ثورات الربيع العربي تكشف أنها تأسست على فرضيتين أساسيتين مرتبطتين ببعضهما البعض. أولها أن تطورات الشرق الأوسط تشير إلى أنه لا مفر من التغيير بما يدفع إلى التكيف مع هذا التغيير وليس مقاومته، وثانيهما، أن التكيف التركي مع هذه الأحداث بالصورة الملائمة من شأنه أن يعظم مصالح تركيا في المنطقة على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني.

وعلى هذا الأساس يمكن رصد أبرز محددات المواقف التركية من ثورات "الربيع العربي"، وذلك على النحو التالي:

1- المحدد السياسي.

2- المحدد الاقتصادي.

3- المحدد الأمني.

ثالثا: تداعيات الربيع العربي على تركيا

وهذا المحور أحد أهم محاور الدراسة حيث قامت الباحثة باستعراض أثر  التطورات التي تشهدها المنطقة في الدور التركي، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا:

1- من الناحية السياسية:  أدت الثورات العربية إلى إعادة استدعاء الدور التركي كنموذج، كما وفرت الثورات مجالًا  لنشاط تركيا في طرح دورها كطرف ثالث ووسيط في معالجة الخلافات العربية الداخلية، ومحاولة الحد من امتداداتها الإقليمية والتدخلات الدولية فيها.

لكن برغم من تبني الدراسة فرضية فاعلية الدول التركي بعد الثورات العربية إلا أنها أكدت أن  ظهور النشاط السياسي التركي صاحبه جدل حول دوافعه ومدى توازنه، وكذلك التساؤل حول مدى فاعليته. فتزايدت حدة الاستقطابات بين أطراف الصراعات الدائرة واستخدام السلاح، كلها عوامل تقيد من فاعلية الدور التركي في تحقيق النتائج المطلوبة وتظهر حدوده، سواء من منظور القدرة على المعالجة الناجحة لأزمات المنطقة، أو حتى توظيف النشاط السياسي والدبلوماسي التركي في تعزيز مكانة تركيا.

2- من الناحية الاقتصادية: برغم من عرض الدرساة لما يشبه خسارة تركية مع دول الربيع العربي معتبرة أن   تعاني تركيا حاليًّا من خسائر اقتصادية في علاقاتها مع الدول التي تشهد ثورات،  فصادرات تركيا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011 تراجعت بنسبة 24% إلى كل من مصر واليمن، و20% لتونس، و43% لليبيا، و5% لسوريا، مع توقع تصاعد هذه النسب في الدولتين الأخيرتين بتدهور الأوضاع فيهما، فضلًا عن خسائر المتعاقدين وشركات البناء التركية في ليبيا، حيث تشكل السوق الثانية للمتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، مع وجود أكثر من 120 شركة تركية عاملة في ليبيا، وفق تقديرات عام 2009.

إلا أنها أكدت على ضروري عدم المبالغة في التأثيرات السلبية في اقتصاد تركيا. فمن ناحية، فتحت هذه الأوضاع المجال لاستحضار دور تركي مساهم في إنقاذ اقتصادات هذه الدول، في إطار الحديث عن مشروعات تعكس سعي تركيا لتنشيط علاقاتها التجارية والاستثمارية معها. كما نجد أن أغلب الشركاء التجاريين الأساسيين لتركيا خارج المنطقة، كما أن النسبة التي تشكلها الصادرات التركية إلى كل من مصر وليبيا وسوريا لإجمالي حجم الصادرات التركية لا تتعدى من 1 إلى 1.5% لكل منها. كذلك، فإن انخفاض حجم الصادرات التركية إلى بعض دول المنطقة عوضته زيادة الصادرات إلى دول أخرى، مثل إيران والعراق والإمارات. وفي السياق ذاته، أعلن تجمع المصدرين الأتراك عزمه على تعزيز الصادرات التركية شرقًا نحو الهند وإندونيسيا والصين لزيادة تنويع وجهات الصادرات التركية.

3- من الناحية الأمنية، ويمكن القول بأن ثورات الربيع العربي قد أثارت العديد من التحديات الأمنية بالنسبة لتركيا‏,‏ والتي ارتبطت بطبيعة الأوضاع السائلة التي صاحبت وترتبت على الثورات العربية‏,‏ وما تبعها أدت الأزمات التي تشهدها دول المنطقة إلى بروز أدوار أمنية عسكرية تركية على نحو ما ظهر في ليبيا بشكل خاص، في إطار المشاركة التركية في حملة الناتو لفرض حظر التسلح وإيصال المساعدات الإنسانية. كذلك، أثارت بعض التحليلات وجود خطط تركية للتدخل وإقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية.

رابعًا: تقييم الدور التركي في الشرق الأوسط في ظل الربيع العربي

لخصت الدراسة الدور التركي في أعقاب ثورات الربيع العربي في الملاحظات التالية:

- فرضت المواقف التركية ومحدّدات سياستها الداخلية التي تخضع لتجاذبات حزبية وانتخابيّة عديدة تراجعًا في حضورها بعد الثورات العربية، خاصّة في حالتي الثورة الليبية والثورة السورية، وبالطبع سيسهم التموضع الجيوسياسي المتوقع في العالم العربي في ملء الفراغ الذي استغلّته تركيا سابقًا كفاعل جيوستراتيجي يحظى بقبول شعبي لإنضاج دور فاعل في المنطقة.

- شهدت فترة الربيع العربي توترًا بين تركيا وباقي دول المنطقة وتحديدًا سورية والعراق وإيران وبدأ يأخذ مسارات خطرة، ولعل مردها جملة من الأسباب المتعلقة بالسياسة التركية نفسها (نشر الدرع الصاروخي الأطلسي الأمريكي -  إظهار تركيا البعد الطائفي في سياستها تجاه المنطقة العربية -  التورط التركي في الأزمة السورية).

- لم تقتصر تداعيات الانقلاب التركي على الملف السوري فقط، بل طال مجمل ملفات المنطقة، ولاسيما الملف النووي الإيراني حيث انتقلت تركيا من دور الوساطة إلى دور الضغط ونقل الرسائل الأمريكية فقط.

- مثلت أحداث الربيع العربي تحديًا حقيقيًّا أمام السياسة الخارجية التركية حيث أوقعتها في مأزق خطير كان عليها فيه الموائمة ما بين مصالحها الاقتصادية وعلاقاتها السياسية مع الدول العربية من جانب، والتزامها الأخلاقي تجاه نصرة الديمقراطية وحقوق الشعوب في نظم سياسية ديمقراطية تحقق العدالة والإنصاف لمجتمعاتها وتقضي على سنوات القمع والاستبداد التي عاشت أسيرة تحت أقدامه لسنوات كُثُر.

في ضوء كل ما تقدم يمكن أن نحدد الدور التركي الإقليمي مستقبلًا بثلاثة مسارات رئيسة، وهي ما يلي:

1. المسار الأول: تنامي الدور التركي

ويتوقف تحقيق تنامي هذا الدور على ما يلي:

‌أ- استمرار التأييد الشعبي لحكومة أردوغان في انتهاج السياسة الإقليمية.

‌ب- استكمال الإصلاحات الداخلية في إطار حل المشكلة الكردية سلميًّا وتحقيق النجاح بعد ذلك.

‌ج- تناغم السياسة الخارجية التركية مع السياسة الأمريكية العامة

‌د- الحاجة الأمريكية والغربية والعربية لدور تركي فاعل لموازنة الدور الإيراني السلبي.

‌ه- الارتكاز على تعدد العلاقات وعدم حصرها في محور واحد الأمر الذي يتيح لتركيا مركزًا مهمًّا في الساحة الإقليمية.

2. المسار الثاني: انكفاء الدور التركي

وتتوقف عملية انكفاء الدور الإقليمي على ما يلي:

‌أ- تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية.

‌ب- حصول انقلاب عسكري من قبل المؤسسة العسكرية التركية، حيث وجهت أصابع الاتهام إلى عدد من الضباط بالتآمر لاغتيال نائب رئيس الوزراء التركي (بولنت أرنتش)، وهو ما استدعى مجلس الأمن القومي ببحث تورط الجيش بالتآمر ضد الحكومة وهذا يعني العودة إلى الوراء.

‌ج- إخفاق حكومة أردوغان في تحقيق المصالحة مع الأكراد وهذا يضع الحكومة أمام امتحان عسير مع المؤسسة العسكرية.

‌د- ازدياد الصراع بين العلمانيين والإسلاميين.

‌ه- فشل تركيا في تقديم نفسها بدور الجسر للتفاهم بين الشرق والغرب.

‌و-     تضاؤل الأهمية الإستراتيجية لتركيا لدى الولايات المتحدة.

ز-  الرفض العربي للدور التركي برمته، وحدوث توافق عربي-عربي على لفظ الدور التركي والاستغناء عنه.

3. المسار الثالث: محدودية الدور التركي

وتستند محدودية الدور التركي إلى ما يلي:

أ- عدم قدرة من سيخلف أردوغان في رئاسة الحكومة الحصول على قاعدة شعبية كبيرة تمكن تركيا من أداء دورها الإقليمي الفاعل.

‌ب- تحديد الدور الإقليمي التركي من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة.

‌ج- فشل المحاولات التركية بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي سيكون عائقًا أمام بروز أي دور إقليمي تركي.

‌د- ازدياد حساسيات القوى الإقليمية الأخرى، مثل إيران، ومصر، والسعودية سيحد من فاعلية الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط.

‌ه- عدم قدرة تركيا على تحقيق الموازنة في علاقاتها  بين (إسرائيل) وتعاطفها مع الحركات الإسلامية.

‌و- إن الانفتاح التركي على سورية وتطوير علاقاتها معها سينعكس سلبًا على أدائها دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين (إسرائيل) وسورية.

‌ز- عدم قدرة تركيا على الإمساك بورقة العراق التي تعد من أهم الأوراق التي تحتفظ بها إيران حاليًّا.

خاتمة الدراسة

من العرض السابق يتضح بجلاء الحضور التركي الفاعل في الشرق الأوسط وتعدد أبعاد الأدوار التركية في الشرق الأوسط وما واجهته من تحديات وصعوبات، وبخاصة في ظل ثورات الربيع العربي، بحيث إن استمرارية الدور التركي وتطوره في المستقبل مرهون بالعوامل الحاكمة له والضغوط التي تواجهه وكيفية معالجتها له، ولاسيما مع صعوبة الحفاظ على الصيغ التوافقية التي تطرحها حكومة العدالة والتنمية بين سعيها لتحقيق مصالحها الوطنية من جهة، ودورها كحليف للولايات المتحدة والغرب من جهة ثانية، والترويج لدورها كفاعل إقليمي يسعى إلى تحقيق الاستقرار ومصالح المنطقة ككل من جهة ثالثة، مع تأكيد عدم التعارض بين هذه الأبعاد وتكاملها مع بعضها البعض.

وبالتالي لابد من التقييم الموضوعي للدور التركي، بعيدًا عن التعويل عليه بشكل كامل، أو تجاهله، أو التحفز ضده. فتركيا − بحكم الجوار الجغرافي على الأقل –تمثل طرفًا أصيلًا في بعض القضايا التي تدور على حدودها، مثل المسألة العراقية، والملف النووي الإيراني، والعلاقات مع سوريا، وهي كذلك طرف مشارك في قضايا إقليمية عديدة أخرى فيما يتجاوز حدودها المباشرة. لكن الطبيعة المعقدة، والممتدة لقضايا المنطقة، وتعقيدات الداخل التركي تجعل الدور التركي −على نشاطه− مقيدًا بعوامل ذاتية، ومعطيات خارجية، وأدوار ومواقف أطراف أخرى، بعضها مبادر ويطرح تصورات ومشروعات مخالفة للرؤية التركية، وبعضها يتعين عليه النهوض بمسؤولياته قبل الرهان على الأدوار التركية أو الارتهان بها.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس