الجزء الأول من دراسة "العلاقات المغاربية التركية بين تحديات الراهن وآفاق المستقبل"

د. زبير خلف الله - خاص ترك برس

على الرغم من أن العلاقات المغاربية التركية هي علاقات قديمة ومتوغلة في عمق التاريخ وتجمع بينها مشتركات حضارية وتاريخية ودينية وثقافية لعبت دورا بالغ الأهمية في صياغة مشروع حضاري قادته الدولة العثمانية انطلاقا من القرن الخامس عشر ميلادي وانضوت المنطقة المغاربية تحت سقف هذا المشروع العثماني الحضاري الذي قاد العالم لمدة ستة قرون، إلا أن العلاقات التركية المغاربية عرفت اختلالا كبيرا وانقطاعا هائلا بسبب ما تعرضت إليه الدولة العثمانية من تآمر أوروبي لتقسيم ممتكلاتها وتقطيع أوصالها، وكانت المنطقة المغاربية من أهم هذه المناطق التي تم استهدافها من قبل القوى الاستعمارية1.

واستمر هذا الانقطاع لمدة طويلة فاقت المئة عام، وأثر بشكل مباشر على طبيعة هذه العلاقة المغاربية التركية، وأحدث فجوة هائلة كان بإمكان السياسيين الجدد خلال القرن العشرين أن يتجاوزوها ويرمموا ما أفسده الاستعمار، إلا أن الدول الحديثة التي ظهرت في تركيا وفي منطقة شمال أفريقيا لم تكن تحمل في داخلها الرغبة الكافية للعودة مجددا إلى اللقاء وبناء أفق ورؤية جديدة لتفعيل علاقات الماضي ورسم استراتيجية جديدة في الراهن تؤسس لمستقبل أكثر نضجا وأكثر إيجابية للعلاقات بين الطرفين في المستقبل القريب والبعيد.

وظلت هذه العلاقات المغاربية التركية يشوبها الضعف والتردد وغياب رغبة حقيقية في توطيدها وتقويتها خصوصا إذا قلنا إن المنطقة المغاربية على الرغم من حصولها على الاستقلال الذاتي إلا أنها ظلت خاضعة سياسيا واقتصاديا وثقافيا إلى الدول الاستعمارية الأوروبية وخصوصا فرنسا التي تعد الآن المنافس الأقوى لتركيا في منطقة شمال أفريقيا، وتسخر كل ما لديها من طاقات لمنع تركيا من العودة إلى المنطقة المغاربية من جديد.

لسنا هنا في هذه المقالة بصدد سرد أحداث تاريخية انقضت وإنما ذكرنا هذا حتى نقرأ طبيعة العلاقات المغاربية التركية وخصوصيتها في الماضي، ونحدد ملامحها في الحاضر ونبني رؤية جديدة لآفاق ومستقبل هذه العلاقات التي قد تغير في المستقبل من طبيعة التوازنات الاستراتيجية  محليا وإقليميا ودولية لا سيما إذا نظرنا إلى هذه العلاقات ضمن بؤرة التوازنات الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ومنطقة شمال أفريقيا وظهور تركيا كلاعب جديد قوي على مسرح الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم.

يجدر بالذكر هنا أن نقول إن تركيا الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك وعلى مدار ثمانين عاما ظلت مترددة في سياستها الخارجية تجاه منطقة المغرب العربي وظلت علاقاتها ضيقة جدا مع هذه المنطقة الواسعة في جغرافيتها والغنية بثرواتها الطبيعية وتميز موقعها الاستراتيجي كبوابة لقلب أفريقيا وعلى جنوب أوروبا وعلى منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط.

لقد خسرت تركيا الجمهورية وجودها في شمال أفريقيا ربما بسبب ضيق رؤيتها في السياسة الخارجية، وعدم قدرتها على منافسة فرنسا التي تقدم نفسها على أنها هي الوصي الشرعي للمنطقة المغاربية ونسيت أن الدولة العثمانية وتركيا ظلت في منطقة شمال أفريقيا أكثر من 300 مائة عام2. لقد فوت القادة الجدد لتركيا الجمهورية فرصا كبيرة لتشكيل تعاون سياسي واقتصادي وثقافي واستراتيجي مهم جدا لردم الهوة  العميقة التي أحدثتها القوى الاستعمارية وأحدثت اختلالا كبيرا في الخارطة الجيوسياسية للعالم العربي والإسلامي.

في المقابل لم تكن دول الاستقلال التي تأسست في شمال افريقيا بعيد الاستقلال الذاتي على استعداد لإعادة العلاقات مع تركيا، كما كانت في الماضي بل ظلت تأتمر بأوامر المستعمر الذي انسحب من المنطقة عسكريا فقط وظلت منظومته الثقافية والسياسية متغلغلة في كافة مفاصل الدولة والمجتمعات المغاربية، بل إن الثروات الطبيعية التي تتمتع بها منطقة شمال أفريقيا تم توقيفها فقط إلى فرنسا وبعض الدول الأوروبية وحرمت تركيا من ذلك نتيجية خطإ الطرفين وعدم وجود رغبة في العودة من جديد.

وقد يعزى ذلك إلى طبيعة الايديولوجيات التي حكمت تلك الدول الجديدة في شمال افريقيا وكذلك الايديولوجيا الكمالية في تركيا التي لم ترغب في تمتين علاقتها مع العرب وخصوصا مع منطقة شمال أفريقيا التي كانت خدمت الدولة العثمانية استراتيجيا واقتصاديا ضد صراعها مع الدول الأرووبية خصوصا إسبانيا وفرنسا وإنجلترا.

لم تكن تركيا الكمالية تفكر بنفس الإيقاع الاستراتيجي الذي كان يفكر به العثمانيون، وكانت النتيجة هو حدوث انفصال كبير بين المنطقتين، وهيمنة الثقافة الغربية خصوصا الفرنكفونية وترسيخها داخل المجتمعات المغاربية عبر أتباع فرنسا من المغاربة الذين وظفتهم فرنسا وبعض الدول الأوروبية ليلعبوا دور الجدار الحاجز لأي عودة تركية من جديد إلى شمال أفريقيا.

لقد كانت السياسية الخارجية لتركيا الكمالية والحكومات المتعاقبة من بعدها ذات التوجه الكمالي سياسة رعناء قائمة على معيار ايديولوجي ضيق ساهم بشكل كبير في إفقاد تركيا كل حضور قوي في منطقة شمال أفريقيا، وحرمت من الاستفادة من ثروات هذه المنطقة التي تصل مساحة دولها الخمس مجتمعة إلى ستة ملايين كلم مربع وتتمتع بثروات طبيعية من مياه ونفط وذهب وغاز ويورانيوم وحديد وغيرها من الثروات الطبيعية المهمة في كل العالم.

كما تتمتع منطقة شمال افريقيا بثروة بشرية ونمو ديمغرافي عال جدا تتجاوز فيه نسبة الشباب 70% ونسبة المتعلمين فيها تصل إلى حدود 60 إلى 65%، وتعد المنطقة بأكملها من أهم المناطق في العالم التي تتمتع بثروات طبيعية وبشرية ذات جودة عالية وقادرة على أن تنهض بمفردها وتشكل كيانا سياسيا موحدا قد يؤثر في المستقبل البعيد على طبيعة التوازنات الاستراتيجية في منطقة البحر الأبيض المتوسط والقارة الإفريقية وأيضا في منطقة الشرق الأوسط.

رغم هذه الامتيازات المتنوعة التي تتسم بها منطقة شمال أفريقيا إلا أن تركيا الجمهورية كانت في غفلة عن هذا جراء فقدانها رؤية استراتيجية حقيقية وهيمنة البعد الايدولوجي الضيق المنغلق على ذاته والمنحصر في نزعة قومية لم تجلب لتركيا سوى خسارة مواقع مهمة في المنطقة العربية عموما وفي المنطقة المغاربية خصوصا. لقد تميز العقل السياسي التركي في تلك المرحلة بحالة اهتراء على مستوى العلاقات الدولية وعلى مستوى السياسة الخارجية حتى باتت تركيا ممرا يعبر عليه الغزاة إلى عمق العالم الاسلامي لنهب كل الثروات التي كانت تحت هيمنة الدولة العثمانية في الماضي.

من جهة أخرى نجد أن الدول المغاربية الخمس رغم هذه الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة الكامنة في المنطقة إلا أنها كانت تعيش حالة استلاب تام وتخلف مركب على كافة المستويات نتيجة هيمنة الدول الأوروبية والغربية خصوصا فرنسا وعبر أنظمتها السياسية التي حكمت هذه الدول الخمس، وكانت يدا طيعة لأجندات استعمارية طامعة في ثورات المنطقة، ومارست استبدادا كبيرا وقمعا للشعوب، وحاصرت الفكر والعقل المغاربي من كل تحرر، وظلت مناطق عديدة تعيش الفقر والحرمان والتهميش والإقصاء مما خلق حالة من اليأس والإحباط لدى شريحة واسعة من الشباب المغاربي المتعلم، وباتت هذه الطاقات البشرية تغادر بلدانها نحو الضفة الأوروبية بحثا عن مورد رزق وبحثا عن حياة كريمة حرة بعيدا عن سياط الجلاد وزنازين التعذيب.

لقد فشلت الأنظمة المغاربية السلطوية في إحداث أي إصلاح حقيقي في المنطقة المغاربية، بل كان زعماؤها يعيشون حالة من السادية والغرور والتنافس أفشل فكرة مشروع الاتحاد المغاربي، واشتد الصراع بين هذه الدول الخمس، وطفحت الخلافات بينها حتى صارت كل دولة خصما لشقيقتها وجارتها، وسقطت فكرة مشروع الاتحاد المغاربي في دهاليز النسيان بعد أن كانت تشكل حلما كبيرا راود الكثير من زعماء حركات الاصلاح المغاربة والزعماء الوطنيين الحقيقيين، وكان بإمكان هذا المشروع أن يحول منطقة شمال أفريقيا إلى كيان سياسي جديد قادر على مواجهة مظاهر التخلف السياسي والاقتصادي، ويحد من هجرة الأدمغة المغاربية التي تستغلها الدول الغربية في بناء نهضتها وبنيتها التحتية واقتصادياتها.

لقد كانت تركيا والأنظمة المغاربية يعيشان كليهما حالة عجز تام في الانفتاح على بعضهما البعض، وكانا يفتقدان إلى رغبة التواصل مع بعضهما البعض من أجل المصلحة الوطنية والإقليمية والعربية والإسلامية. لكن كلا الطرفين كانا في حالة تبعية وأزمة عميقة جدا سواء على المستوى الهيكلي في كافة قطاعات الدولة أو على مستوى التصور والنضج السياسي والاستراتيجي وغياب رؤية الوحدة المشتركة والتعاون المشترك من أجل النهوض بالأمة العربية والإسلامية.

قد يعود الانقطاع بشكل عام إضافة إلى العوامل التي ذكرناها آنفا مثل هيمنة القوى الاستعمارية وضيق أفق العقل السياسي التركي وكذلك العقل السياسي المغاربي وغياب الرؤية الاستراتيجية الخلاقة التي تدفع نحو إيجاد تقارب سياسي واقتصادي مغاربي تركي حقيقي توظف فيه كل الطاقات المغاربية والتركية نحو بناء مشروع مغاربي تركي في منطقة البحر الأبيض المتوسط ويكون لبنة وخطوة متقدمة لإخراج المنطقة العربية والاسلامية من حالة الاستلاب والتبعية وهيمنة القوى الغربية الطامعة في خيرات أمتنا، قلت إضافة إلى هذا كله يعود هذا الانقطاع وضعف التواصل المغاربي التركي إلى حالة قابلية الانفصال والانقطاع التي أصيبت بها تركيا الجمهورية والأنظمة المغاربية على حد السواء، وقد يكون الغرب خصوصا فرنسا قد غذت مثل هذه الحالة المرضية من أجل تعميق الهوة بين الطرفين وتستفرد هي بالمنطقة وبثرواتها الطبيعية والبشرية دون أن يكون لها أي منافس في المنطقة3.

أعتقد أن الغرب نجح إلى حد ما في إحداث مثل هذه القطيعة الكبيرة بين الضفة التركية والضفة المغاربية، وقد ساعده في ذلك تلك النخبة المغاربية المتفرنسة الفرنكفونية على توجيه بوصلة شمال إفريقيا نحو فرنسا الاستعمارية وتشويه تركيا عبر ترويج حملة معادية لتركيا العثمانية وزرع ثقافة النيل من تاريخ الدولة العثمانية واعتبارها العدو الأول للحضارة والتقدم، وربط مصير المنطقة المغاربية بأكملها إلى الضفة الأوروبية. وتم استبدال الاستعمار العسكري المباشر للمنطقة باستعمار غير مباشر أشد توحشا وأكثر قبحا وتدميرا، وهو ما نسميه بالاستعمار الثقافي والاقتصادي من خلال رهن كل ثروات المنطقة من نفط وغاز وذهب لصالح أوروبا الاستعمارية الأمر الذي سينعكس سلبا على مستقبل المنطقة وعلى شعوبها التي ابتليت بأنظمة استبدادية قمعية فاسدة سخرت كل جهودها فقط في تقوية الأجهزة الأمنية لقمع شعوبها، واستولى على الدولة مجموعة من العائلات الفاسدة نهبت خيرات البلاد وتركتها تقبع تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان والتهميش4.

بشكل عام ودون الرجوع إلى الماضي القديم في العلاقات بين تركيا والمنطقة المغاربية  يمكننا اعتبار أن المرحلة الممتدة على مدى النصف الثاني للقرن العشرين قد عرفت تواصلا بين الضفة المغاربية والضفة التركية ولكنه كان تواصلا ضعيفا هشا لم يرتق إلى درجة الجدية والتعاون الحقيقي، وظلت العلاقات منحصرة في بعدها التجاري الضعيف وفي بعدها الديبلوماسي. في مقابل ذلك توطدت العلاقة بين الدول الاستعمارية ودول المنطقة المغاربية التي كانت بمثابة مصدرا لنهب الثروات وسوقا استهلاكيا للبضائع الاوروبية والغربية وحزاما واقيا لأوروبا من أي خطر داهم من القارة الافريقية وقاعدة استراتيجية مهمة للهيمنة على حوض البحر الابيض المتوسط والسيطرة على وسط افريقيا والقارة الافريقية عموما5.


1 http://www.ordaf.org/wp-content/uploads/2014/05/Türkiye-Kuzey-Afrika-İlişkileri-Raporu.pdf

2 Garp ocakları için bkz. Atilla Çetin "Garp Ocakları", Diyanet İslam Ansiklopedisi (DİA), XIII, İstanbul.

1996, s. 382-386; İ. H. Uzunçarşılı, Osmanlı Tarihi, III/II, 3. baskı, TTK, Ankara 1998, s. 293-305.

3 http://boudina.voila.net/h03.htm

4 http://www.arrafid.ae/arrafid/p6_10-2012.html

5 http://www.mfa.gov.tr/العلاقات-التركية-مع-دول-الشرق-الأوسط-وشمال-أفريقيا

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس