د. سمير صالحة - العربي الجديد

شهدت العلاقات التركية المصرية دائما هباتٍ باردة وساخنة، بحسب التحولات السياسية والأمنية على المستويين، الثنائي والإقليمي، وميول القيادات ومزاجها. 

وقبل أربعة أعوام، أثارت الثورة المصرية الحماس في صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ودفعته إلى التحرك السريع نحو مصر، بهدف فتح صفحة جديدة من العلاقات، بعدما تراجعت في عهد الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، نتيجة شبكة التحالفات الإقليمية والدولية المتباعدة والمتضاربة، لكن الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي في يوليو/ تموز 2013، والموقف التركي المنتقد، قلبا المعادلة ودفعا الأمور إلى التدهور من جديد بين البلدين اللذين يقفان اليوم أمام امتحان قمة دول الاتحاد من أجل المتوسط التي تنعقد في إيطاليا، حيث سيجلسان جنباً إلى جنب، على منصة رئاسة المكتب التنفيذي للمجموعة، لترؤس الأعمال والنقاش في تحديد جدول الأعمال وصدور التوصيات والقرارات.

فكيف سيكون حوار رئيس البرلمان التركي، إسماعيل قهرمان، ونظيره المصري علي عبد العال، هذه المرة، بعدما فشلت مصر في تعطيل انتخاب تركيا من حصة دول جنوب الحوض. هل سيستغلان فرصة اللقاء لتليين العلاقات المتوترة بين بلديهما، بعد قرار أنقرة، إدخال تعديلات جذرية على سياستها الخارجية بهدف "زيادة عدد الأصدقاء وتقليص عدد الأعداء"، أم سينعكس التصلب والتأزم على أعمال دول حوض المتوسط، كما حدث في أخر لقاء للمجموعة قبل شهرين؟ 

أسئلة وإشكالات 

أعلن شعبان ديشلي، وهو قيادي بارز في حزب العدالة والتنمية، أن وفداً تركياً سيزور القاهرة في الأيام المقبلة، فهل يتحقق ذلك، وتكون القيادة المصرية جاهزةً لنقاش براغماتي سريع وحاسم، مع القيادة التركية، يترك نقاط الخلاف جانباً، ويفتح صفحة جديدة من العلاقات، تعطى الأولوية فيها للتنسيق في قراءة مسار التطورات الإقليمية في حوضي شرق المتوسط والبحر الأسود في مجالات الطاقة والاستثمار والمشاريع العملاقة؟ هل تستعد أنقرة فعلا لطرق باب مصر، بعد التحول الكبير الذي أدخلته على سياستها الخارجية تجاه روسيا وإسرائيل، وبعدما ظلت، أكثر من عامين، تصف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالانقلابي الذي أطاح رئيساً مدنياً وحكومته، مستفيداً من بزته العسكرية؟ 

قبل الإجابة عن سؤال بشأن ما إذا كانت القاهرة سترضى برسالةٍ تركيةٍ مشابهة للتي بعث بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، لا بد أن نناقش ما إذا كانت قنوات الاتصال بين البلدين قد نجحت في إيصال هذه الرسالة، لتلقيها مصرياً بشكل إيجابي، ورد التحية التركية، بما يعني فتح الطريق أمام صفحة جديدة من العلاقات. 

يعكس التلاسن السياسي والإعلامي، أخيراً، بين أنقرة والقاهرة، حقيقة أن تصريحات نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي، ديشلي، بأن بلاده سترسل قريبا إلى القاهرة فريقاً لمناقشة الطرق التي يمكن من خلالها تخفيف التوتر مع مصر، تتعارض مع مواقف الرئيس أردوغان الذي استبعد أي تقارب مع القيادة المصرية الحالية، لأن "المشكلات سببها النظام المصري"، ومع ما طرحه وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، الذي أعرب عن استعداده لعقد لقاءات مع نظيره المصري، سامح شكري، لبحث العلاقات السياسية، شرط أن تتخذ القاهرة خطواتٍ إيجابية تجاه السجناء السياسيين، وأن تتراجع عن قرارات الإعدام الصادرة بحق أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين أخيراً. 

ترى تقارير وتحليلات سياسية وإعلامية إسرائيلية أن اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل سيكون مقدمة لاتفاق مصالحةٍ آخر بين مصر وتركيا، وأن التقديرات تشير إلى أن مصالحة إسرائيلية – تركية، ومصالحة تركية – مصرية سوف تشكل كتلة من أربع دول قوية في المنطقة بينها السعودية، يمكنها التعاون سويّاً، حتى إن لم يكن بشكل رسمي، كحلف ضد إيران، في محاولة لوقف نفوذها في المنطقة. 

تتواتر مثل هذه التقارير، فيما القاهرة ماضية في خطة بناء التحالفات الإقليمية الجديدة ضد أنقرة، لرفضها شرعية الحكومة المصرية، لكنها ما زالت ترى المشهد على أنه المشروع الأردوغاني – الأميركي الذي ولد في العام 2008، مع زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتجلى واضحاً مع بداية الربيع العربي في العام 2011 . ولم تتراجع مصر، ولو لحظة واحدة، عن قراءتها المشهد الإقليمي في الأعوام القليلة الماضية، على أنه محاولة تركية لاستغلال الظروف العربية والإسلامية لتسويق مشروع "الإسلام السياسي السني المعتدل"، بزعامة التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، ودعم صعودهم إلى السلطة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، وأن تلك المحاولات والاجتهادات فشلت فشلاً ذريعاً في استثمار تلك الفوضى. 

كان بناء شبكة تحالفات إقليمية متباعدة، والتصعيد الإعلامي والسياسي بين القيادات في الجانبين، الترجمة الحقيقية لسياسات المناكفة والمكايدة بين القاهرة وأنقرة. بدأ التضييق على المصالح التركية المرتبطة بمصر على حركة التجارة بينها وبين تركيا، من خلال الخط الملاحي التركي الذي بدأ عام 2011، والذي يورد البضائع إلى دول الخليج ومصر معاً. ومن الأمور التي أثارت الأزمة من جديد بين البلدين، احتفال مصر بذكرى مرور مائة عام على مذابح الأرمن التي تنفيها الحكومة التركية، ومشاركة الوفد القبطي الرفيع الذي قاد التحرك في يريفان. 

المفترض إسلامياً وتاريخياً أن تتصالح تركيا ومصر، وأن تنبذا الخلافات، وأن لا تتنافسان على كسب ود إسرائيل، إذا كانت مصر حريصةً على أفضل العلاقات مع تل أبيب، فلماذا لا تكون بالقدر نفسه من الحرص لتجاوز خلافاتها مع تركيا، وإذا كانت الأخيرة قادرةً على تحسين علاقاتها مع العدو الإسرائيلي وتطويرها، فلماذا لا تبذل الجهد لتحسين علاقاتها مع مصر؟

سخرية القدر أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أول من يرحب بالاتفاق التركي الإسرائيلي، وأن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أول من يرحب بالتفاهم التركي الروسي، فيما تردّد القاهرة أن المساعدات التركية إلى قطاع غزة تصل عبر نقطة الحدود والمراقبة الإسرائيلية، وأن يقال في الإعلام المصري إن تل أبيب تعلن أنها تطلع الجانب المصري على تفاصيل اتفاقها مع أنقرة، وليس تركيا هي من تفعل ذلك. ويرى الإعلام المذكور أن الخاسر الأكبر من التفاهم التركي الإسرائيلي هو الجانب الفلسطيني، كون المساعدات مسألة ظرفية، لا تتضمن سوى إرسال بعض المواد الغذائية وألعاب العيد للأطفال. 

وأن تركيا عادت، في هذه الاتفاقية، إلى حجمها الطبيعي في الإقليم "وباعت حركة حماس تماماً كما باعت جماعة الإخوان"، وأن تتجاهل أن تل أبيب تفتح الأبواب في معبر كرم أبو سالم لإدخال شاحناتٍ تحمل مساعدات من السفينة التركية "ليدي ليلى" إلى قطاع غزة، بعدما رست في ميناء أسدود.

تتحدّث أنقرة عن صناعة مشهد إقليمي جديد، بشراكة تركية روسية إسرائيلية، وتردّد أن تجاهل مصر ضرورة تحسين علاقاتها مع تركيا يعني أن تجد نفسها في الموقف التركي الذي عانت تركيا منه سنواتٍ، بسبب انسداد سياساتها الإقليمية، مع فارق أن تركيا استطاعت، بقوتها الاقتصادية، الوقوف على قدميها، وسط كل الهبات والضربات السياسية والأمنية التي تعرّضت لها، وأن مصر غير قادرة اقتصادياً ومالياً على فعل ذلك.

هناك في مصر نفسها من يقول إنه، قبل ثلاثة أعوام، كان الرئيس السيسي يتحدّث بثقةٍ كبيرة، على عكس حاله اليوم، حيث اختلف المشهد تماماً، واختلفت الصورة، واختلفت المشاعر، بين خطاب عبد الفتاح السيسي أمام المصريين في وسط عام 2013، بعد إطاحة محمد مرسي "مصر أم الدنيا وها تبقى أد الدنيا، وبكره تشوفوا مصر"، وخطابه في أواسط 2016 الذي يمكن تلخيصه في نداء استغاثة للمصريين "لا تتركونا نغرق"، ولغة الصبر على البلاء والفقر والجوع "ما نكلش آه ما نكلش". 

مصر منزعجة من التحول الجاري في سياسة تركيا الإقليمية، وعلى الرغم من وصفها هذا التحول بأنه انحناء واستدارة، فإنها تقول إن نتائج هذه السياسة الجديدة لن تعنيها مباشرةً، باتجاه حصول تحوّل تركي مرتقب في قراءة مسار العلاقات مع القاهرة، فلا مكان لهذه العلاقات بين أولويات السياسة الخارجية التركية الجديدة.

وتردّد القاهرة أن تركيا رضخت للأمر الواقع، ونزلت عن الشجرة التي تسلقتها، وعادت إلى حجمها الطبيعي في المنطقة، بعد تغيير حقيقي في سياستها الخارجية، لكن القاهرة تعرف جيداً أن بين أسباب التحول في السياسة الخارجية التركية، أخيراً، يأتي العامل المصري الذي دخل في شبكة علاقاتٍ واسعةٍ أمنيةٍ واستخباراتيةٍ وسياسيةٍ، تقوم على التحالف مع أعدائها، والتنسيق مع منافسين وخصوم سياسيين لها في المنطقة.

وتؤكد تقارير استخبارتية تركية أن قيادات من حزبي العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي في سورية) التقت مرات عديدة بمسؤولين مصريين في القاهرة، في الأشهر القليلة الماضية، بهدف التنسيق على الساحتين التركية والسورية، على الرغم من قيادتهما مشاريع تفتيتية انفصالية في سورية وتركيا، فكيف يمكن ان نتحدث عن حوار ومصالحة قريبة بين البلدين؟ 

ستتابع القاهرة عن قرب مسألة كيف غيرت موسكو من سياستها التركية بشكل كامل، ونسيت شروطها وتفاصيل حادثة إسقاط مقاتلات تركية طائرتها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لكنها ما زالت تعاقب مصر على تحطم طائرة الركاب الروسية فوق سيناء فى أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على الرغم من تنفيذ مصر كل الشروط والمطالب الروسية في إجراءات سلامة الرحلات الجوية التي طلبتها موسكو. 

ويمكن القول هنا، إن الفرصة الوحيدة لإنقاذ العلاقات التركية المصرية ليست فقط وجود رغبة إسرائيلية روسية حقيقية في إقناع أنقرة والقاهرة بأهمية دورهما المشترك في بناء التفاهم الجديد في شرق المتوسط، غازياً واقتصادياً، بل استعداد مصر للعب دور عربي وإسلامي وإقليمي جديد، يأخذ في الاعتبار السيناريوهات المستقبلية والخرائط الاستراتيجية الجديدة للمنطقة. 

حقيقة أخرى هي أنه حتى ولو نجح الطرفان في إنجاز عملية المصالحة، فإن عملية التطبيع لا بد أن تستغرق وقتاً طويلاً، فمسار العلاقات التركية المصرية يختلف تماماً عن العلاقات التركية الإسرائيلية، والتركية الروسية، لناحية طبيعتها وتطورها ومسارها في العقدين الماضيين، والأرقام الاقتصادية وحجم التعاون العسكري والسياسي يقولان ذلك. كما أن المصالحة المصرية المصرية، ثم المسار السياسي المصري الجديد في الداخل والخارج، لا بد أن يسبق التطبيع التركي المصري، بعد النقلات الاستراتيجية التركية أخيراً. ومن دون ذلك من الصعب أن نتحدّث عن صفحةٍ جديدة في مسار العلاقات بين البلدين.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس