شمس محمود - خلص ترك برس

نتفاجأ كلنا بإعلان وسائل إعلامية أن انقلابا عسكريا تم في تركيا وأن الجيش هو من يقود البلاد؟!!

ربما الانقلاب كان متوقعا بعد الانتخابات الأخيرة خصوصا في فصلها الأول ولكن الأمور مرت بسلام ولكن الانقلابيين ليسوا كذلك فظلوا يتحينون الفرص ويجهزون لليوم الذي تعلو فيه الدبابة على الصندوق مرة أخرى وتعلو فيه المصالح الشخصية وأجندات الدول التي ينسقون معها.

 فنادر هم من يؤمنون بالديموقراطية وحرية تقرير المصير في هذا العالم وبين هذه الدول التى تنادي علينا زورا ليل نهار بضرورة إحترام حرية الاختيار والحفاظ على حقوق الإنسان حتى تسارعت وتواترت لدينا الأحداث جميعا لتفضح وتعلن عن الوجه الحقيقي لتلك الدول وهذه الدعوات وأن حقوق الإنسان وحق الاختيار ليست مبادئ أو أصول لدى هذه الدول بل مجرد حذاء ينتعل ويخلع وقت الحاجة.

 وكذلك حقوق الإنسان وتقرير المصير وحرية الإختيار ليست لها أدنى قيمة إذا ما خالفت مصالح الدول التى تقود العالم اليوم أو كانت ستفرز او ينتج عنها اختيارا مخالف لاختيار هذه الدول أو توجها من شأنه إيجاد منافس حقيقي وقوي على الأرض. وأن الكلمات العالمية مثل إرهاب وإنقلاب هى مصطلحات مطاطة يمكن التجاوز عنها إذا ما تعلق الأمر بحليف أو من لا نريد لصورته أن تتشوه ومحددة وصارمة وفي غاية الوضوح إذا ما تعلق الأمر بعدوا أو من يريدون لصورته أن تنتهى بالزور والبهتان وأنه من أهم قواعد اللعبة أنه لا قواعد للعبة.

وأن الجميع لدى هذه القوة منذ أن صعدت تاريخيا حتى اللحظة على دكة الاحتياطي وجاهزين لإنهاء عقودهم في أي وقت ويستوي فى هذا الحليف والعدو وانظروا إلى حلفائهم منذ أن صعدوا حتى اليوم ماذا حل بهم رغم الوفاء الكبير لهذه الدول حتى إن بعضهم أعدم رميا بالرصاص هو وعائلته دون تردد لحظة واحدة كما في أفغانستان. حتى أن محمود عباس رغم خدماته الجليلة والكبيرة للاحتلال يفكرون اليوم في تغييره كما فعلوا تماما مع السيد أبو عمار لما ملو دميتهم وصارت مصدرا أقل للسعادة عندهم.

ولعل من أبرز الأسباب في نظري التى ساعدت على إفشال هذا الانقلاب المدعوم عالميا بعد توفيق الله هو توقع الانقلاب؟!!

نعم فأردوغان يبدو أنه كان متوقعا بل ومعدا لخطة يواجه بها الانقلاب وكانت هذه الخطة تتطور في كل عام يمر وأردوغان وفريقه ورفاق دربه فيه على رأس السلطة ومن يظن أن أردوغان تعامل بالأمس تعامل ما بعد الصدمة أو كان الأمر خبط عشواء و دون ترتيب فهو مخطئ تماما.

ولو أن أحدا ما أتى على رأس دولة يتحكم فيها العسكر منذ سنوات ولم يكن في حسبانه أن سيناريوهات الانقلاب تلوح في الأفق فهو أحمق لا يصلح أن يكون رئيسا أو مخططا لنهوض دولته وحمل راية التغيير والنهضة.

فأولا: يذهب الرئيس ورئيس الوزراء ووزراء إلى أماكن غير معلومة وهذا يعني أن هناك فريق داخل السلطة يدعم أردوغان أو يدعم ما تحقق في بلاده من ديمقراطية فلو كان الجيش مسيطرا على مجريات الأمور لما استطاع أردوغان التحرك قيد أنملة من مكانه لا هو ولا رئيس وزرائه إذا فهناك فريق عمل كان قد جهز خطة مسبقة مفادها ماذا سنفعل لو حدث انقلاب.

ثانيا: التواصل الجيد "بثقة" مع الشعب فأردوغان.

بالأمس لم يخجل من الظهور الإعلامي عن طريق هاتف نقال فالهدف كان التواصل مع الشعب وإرباك الإنقلابيين ولما يضيع أردوغان الوقت لتوضيح ما جرى بل وجه الرسالة الواضحة والصريحة والصحيحة إلى الشعب التركي قائلا: أدعو الشعب التركي للاحتشاد في الميادين العامة والمطارات، فأنا لم أؤمن قط بسلطة أعلى من سلطة الشعب." و لم يقع أردوغان فى السذاجات الفلسفية أو الزعامية ولم يقع أسيرا للماضي ولم يستنسخ التجربة الأربكانية مع الإنقلاب لأن الوقت تغير والظروف مختلفة و كذلك الأدوات التي يملكها رغم أنه يعلم جيدا أن المجتمع الدولي ما زال على العهد لفجره في الخصومة فتحدث للشعب مباشرة أنه حان وقت النزول فالثانية تفرق وقت الخطوب.

صاحبه تصريحات وتواصل حكومي مماثل من قبل الحكومة والوجوه البارزة فى الحرية والعدالة فرئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم صرح هاتفيا لتلفزيون إن تي في: "إننا نتعامل مع احتمالية وقوع انقلاب ولن نسمح بحدوثه."

وأضاف قائلا: "إن أولئك المتورطين في هذا العمل غير المشروع سيدفعون ثمنا باهظا". 

وأضاف قائلا: "ليس صحيحا وصف هذا العمل بالانقلاب."

وتابع قائلا: "إن مجموعة داخل الجيش قامت بعمل غير شرعي بعيدا عن قياداتهم، ويجب أن يعلم شعبنا أننا لن نسمح بأي نشاط يضر بالديمقراطية".

مؤكدا أنه لم يحدث انقلاب، وأن الحكومة مازالت تسيطر على الوضع. و إنه تم استدعاء قوات الأمن للتعامل مع الموقف، مشددا على أن الديمقراطية التركية لن تتضرر بشيء. ثم جاءت التصريحات الظهور القوي لكل من السيد "عبدالله غُل" الرئيس التركي السابق، والسيد "أحمد داود أوغلو" رئيس الحكومة السابق.

كل هذا طمأن الشعب التركي وكل رافض للإنقلاب سواء كان مؤيدا أو معارضا لأردوغان وكان هذا الممهد لأهم خطوة والتى عول عليها الجميع وأنتظرها الكل بفارغ الصبر في الداخل والخارج من قاموا بالإنقلاب ومن يقاموا نجاح ألا وهي خطوة نزول الشعب استجابة لنداء الديموقراطية وما حققوة على الأرض.

فالكل يعلم أن ظهور الدبابة فى المشهد السياسي يعني عودة الأمور إلى انتحارات ما قبل العدالة والتنمية. و قادة المعارضة أدركوا أن عودة الجيش تعني أن مكتسباتهم السياسية جميعهم فى خطر إذ أن المزاج " العسكري" سيكون هو المتحكم الوحيد فى القبول والرفض وأن أحلامهم جميعا صغيرها وكبيرها بات في خطر فالريموت العسكري برعاية دولية سيكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وقتها.

نزل الشعب يدافع عن مكتسباته والكل يدرك أنه لا قوة تستطيع أن تقف أمام الشعب لما يجتمع على قضية وهدف مهما بلغت قوة وفجر وعنف من خرجوا ضده وأنه فقط ينجح المحتل أو الانقلابي لما ينجح في تفريق المجموع على قضايا منوعة فيعميهم تماما عن الحقيقة.

ويكون الوضع كارثيا لما يكون من أنيطت بهم القيادة هم من يقدمون أسباب ووسائل سقوطهم بأيديهم ثم يندبون حظهم من بعد ويلتفتون إلى كل الأسباب "الوهمية منها والحقيقية" ولا يلتفتون إلى أنهم كانوا السبب الرئيسي والجزء المهم الذي مهد لهذا. ويلومون كل أحد إلا أنفسهم وقتها تدرك أنهم لم يكونوا ولا يمكن أن يكونوا قادة أو من صانعي الأحداث ومحركي الأمم.

نزل الشعب بقوة لأن العدالة والتنمية قدم ولأن أردوغان لم يكن "فهلوي" بل كان "صنيعي" يتقن صنعته بأدوات الصناعة الصحيحة ولم يردد بين جماهيره يوما  بأن (الشاطره تغزل برجل حمار).

نزل الشعب مؤيد ومعارض يحمي مكتسباته إذا فهناك على الأرض مكتسبات ليحميها الشعب وليست وعود يطلقها البعض ولا يدري ما السبيل إلى تحقيقها فتكون لعنة عليه.

نزل الشعب وهو يقارن بين أردوغان أو العدالة والتنمية والدبابة وفي هذا يحضرني حوار جرى بين الشيخ على العمري وعجوز تركية كما يحكي بنفسه فيقول الشيخ: قبل سنة كنت في اسطنبول فترة الانتخابات الرئاسية.

سألت من في الاستقبال في الفندق: من ستنتخبين؟

قالت: أنا علمانية وأكره أردوغان؛ لأنه ( فرض ) الحجاب في المدارس!

ثم قالت: ولكنني سأنتخبه!!

قلت لها ما السبب:

قالت: أولًا: الأحزاب العلمانية كانت تأخذ الضرائب ولا تفعل شيئاً، وأردوغان وحزب العدالة التنمية أخذوا الضرائب وطوروا البلد.

ثانيًا: كنت لا أرى أمي إلا في الشهر مرة؛ لبعد المكان من إسطنبول للبلدة النائية، والآن أراها كل أسبوع لأن أردوغان وحزبه شقوا طريقًا سريعة لبلدتنا.

ثالثًا: نحن إذا نادينا الشعب لا يحضر لنا إلا عدة آلاف، وأردوغان إذا نادى الشعب حضر له الملايين!

ورغم المخاطر وذكريات التجارب الإنقلابية عندهم وحول العالم كان ما تحقق كافيا ليجعل تدفق الأدرينالين أقوى فى عروقهم فينزلون بكافة أعمارهم يهتفون "يا الله... بسم الله... الله أكبر"، فكانت الجماهير هي حجر الزاوية وحصان الرهان ووفقه الله فى إحباط هذه المحاولة.

مهد هذا النزول الجاد والتعامل القوي من الشعب  ضد الإنقلابيين الذين بدوا في أول الأمر كما لو أنهم في الطريق إلى إتمام انقلابهم إلى الخطوة الثالثة والتي لا تقل أهمية عن نزول الشعب وهي:

تحرك الأجهزة المسلحة التي كان إنتمائها الأول لوطنها ومصالحه العليا والتعامل مع هذا الإنقلاب بحرفية عالية . وكلاهما تحرك الشعب القوي أولا ثم تحرك هذه الأجهزة ثانية أفشل هذا الانقلاب وربما أحجم البعض من داخل المؤسسة العسكرية وغيرها عن دعم هذا الانقلاب الفاشل والمشاركة فيه.

وبالأمس كانت أمريكا (وحلفائها الأوروبيون) وروسيا (وحلفاؤها الشرقيون) وإسرائيل (وصهاينة العرب) ينتظرون بفارغ الصبر ظهور أردوغان بالملابس الداخلية يعلن تنازله عن منصبه وتولي الجيش مقاليد الحكم. ولم ينطق واحد منهم بأنه ضد الانقلاب أو أنه لن يتعامل معه (ولو بصورة وهمية) لكن أبى الله إلا أن يفضحوا زيادة على فضائحهم التى لم تعد لها نهاية حتى قال أحدهم ساخرا: إن أردوغان أفشل الانقلاب قبل أن يشعر بان كي مون بالقلق. 

ونستطيع من هذا أن نستخلص عدة دروس:

أولا: ظهر جليا لكل من يعول على أمريكا أو الأوروبيين أن الذي يحمي الحراك بعد (توفيق الله وعونه) هم المؤمنون من الداخل وهم الشعب.

ثانيا: وقت المغامرة غامر وأنت تستخدم الأدوات الصحيحة، فأردوغان أو العدالة والتنمية لم يتحدثوا في الإعلام بكربلائية، فمع ما يمتلكه من أدوات تحدث بلغة مفهومة وواضحة واستعمل كافة الأدوات التي خطط جيدا لاستخدامها (وتوفيق الله فوق كل شيء) وإذا كان البعض يردد ماذا كنتم ستخسرون لو أن فلانا أكمل مدته الرئاسية رغم ما تنتقدونه عليه من أخطاء أو حتى فساد بدلا من أن تركب الدبابة المشهد؟!!

فيكون الرد: وماذا كنتم ستخسرون لو تعاملتم باحترافية مع المشهد ورميتم بالزورق الممكن في البحر الذي كان على وشك أن يهيج وأجريتم انتخابات مبكرة كانت ستجعل المشهد مختلفا وتقطع الطريق على انقلاب الثالث من تموز/ يوليو؟!! وإذا كان هناك خطأ أرتكب من سياسيين "حمقى".

بالمشاركة فى مظاهرات يعلم البعض أن العسكر ينتظرها بفارغ الصبر دون شروط رغم أنها كانت ستحدث بهم أو بغيرهم لوجود كافة الأسباب المنتجة لها لأن كل من حاول اصطناع أو استغلال أحداث ليخرج الناس قبل ذلك  لم ينجحوا وفشلوا فشلا ذريعا، فكذلك ينطبق وصف الحماقة على من مهدوا للإنقلاب بأفعالهم ومن يعلمون وتعاملوا بحمق مماثل ولم يستخدموا أي ورقة متاحة ولم يعوا أن "الخسارة القريبة خير من المكسب البعيد" واطمأنوا تماما لرجال مبارك رغم أن جميع الناصحين ومنهم أردوغان أخبرهم قبل ذلك بمدة كافة أن انقلابا في طريقه اليكم فاحذروا فلم يستجيبوا للتحذيرات حتى عمهم هذا الظلم العظيم والبغي الكبير من قبل قادة هذا الانقلاب وداعميهم الدوليين.

ثالثا: الإعلام لا يمكن أن يكون أداة ناجحة في يد الفاشلين أو الدكتاتوريين بل هو لعنه على كليهما لأنه سيظهر للجميع ما عدا "البهاليل" منهم  مدى الخيبة التي يحظون بها. وأنه في وقت هذه الأزمات يظهر الإعلام المخابراتي بوضوح ورغم أنني مؤمن بأنه لا يوجد إعلام محايد بمن فيهم "الجزيرة" ولكن هناك فرق كبير بين المحايد والكذاب وبعض وسائل الإعلام تأبى إلا أن تظهر بوضوح أنها تدار عن طريق المخرجين داخل مباني المخابرات وليس استديوهات الأخبار؟!!

ففي الوقت الذي كان الانقلاب فيه "يترنح" وبدا واضحا أنه في طريقة للفشل كانت قنوات مثل العربية وسكاي نيوز عربية وبي بي سي عربي تضع على شاشتها: "عاجل: الجيش التركي يسيطر على الحكم فى البلاد"، أما عن إعلام "غوبلز" الأشد غشامة فكان ينقل صورة المتظاهرين الرافضين للانقلاب على أنهم مؤيدون له؟!!

ويصف المظاهرات المؤيدة بأنها بالعشرات وبعضها تحدث رغم وضوح فشل الانقلاب بقولها إنه: لا يمكننا التحدث عن فشل الانقلاب فالمتظاهرين بالعشرات والجيش ما يزال في الشارع؟!!

رابعا: لم يفشل الإنقلاب لأنه كان كلاسيكيا فكثير من الكلاسيكيات نجحت حولنا بل وأشدها سوادا نجح أيضا فالأمر لا يتعلق بكيفية الإنقلاب بل بالتعامل معه وقبول الشعب له أو رفضه والانقلاب لم يكن ساذجا أو بسيطا فحتى الطائرات استخدمت في هذه العملية ولم يكن ضعيفا فأمريكا ورورسيا وإيران والدول الغربية بدا واضحا أنها تريد هذا أن ينجح الانقلاب وتتواصل معه ومن تابع بالأمس أدرك بشكل شبه مؤكد عندما علت نبرة أوباما والغربيين ضد الانقلاب وهم الذين كانوا قبل قليل يتابعون ما يحدث كمن يتابع ماتش كرة قدم أن الانقلاب قد فشل وهو ما بدا واضحا اليوم عندما تحدث كيري كما في هافينغتون بوست: ما حدث تم بطريقة غير مهنية. فهل كان السيد كيري يريده أن يتم بطريقة مهنية؟!!

فلم يفشل الإنقلاب إذا لأنه كان ضعيفا أم لأنه لم يتم التخطيط له جيدا أو لأن السياسيين لم يدعمو ؟! بل لأنه لم يجد حاضنة شعبية تقبل به بينها وماذا كان سيغني تأييد السياسيين للانقلاب إذا قالت الجماهير في وجه الجميع لا ورغم هذا فما فعله السياسيون كان عين الصواب.

خامسا: أردوغان ليس معصوما لكنه أيضا ليس نبيا ولا نصف نبي ولم يروج له أحد أنه مؤيد من الله أو أنه حافظ للقرآن أو ينام يبكي خوفا على مصالح الأمة. لأنه حتى أسوأ الديكتاتوريين يستخدمون هذا فى الترويج لأنفسهم بحسب الحالة والخطة المطروحة. لكن أردوغان رجل يحسن استخدام الأدوات المتاحة ويستعملها وفق ما يؤمن به ووفق الممكن في التطبيق. وأنه ربما تكون تركيا اليوم بعد هذه التجربة على وشك التوديع الأخير لمحاولات الانقلاب وتعزيز معنى الدولة وبداية جديدة في التعامل مع المجتمع الدولي. فما ينتج فى خمسين عاما لا يمكن هدمه في يومين أما اذا كان اللاعب فاسدًا أو فاشلًا فلن تصلح الأمور أبدًا ولو بعد ألف عام.

فشل الانقلاب إذا فتعالوا بنا نتعلم من "ليلة بكى فيها الإنقلاب".

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس