محمد حسن القدّو - خاص ترك برس

ما زالت الأحداث التركية والتصدي الشجاع الذي أبداه المواطنون الأتراك ضد الانقلابيين وما تلا تلك الاحداث من تغير واقعي وحقيقي ملموس تَنَبَّهَ إليه معظم الذين ابتُلوا بأنظمة فاسدة متسلطة على رقابهم في كافة الدول المحيطة.

إن الحدث الأهم والذي طرأ على الشارع العراقي ونقلته معظم القنوات التلفزيونية العراقية والعربية والذي نال النصيب الأكبر من الاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي بين العراقيين والعرب معا هي وقائع استجواب وزير الدفاع العراقي من قبل البرلمانيين العراقيين بدعوى الفساد الإداري والطائفي على حد زعمهم، مع العلم أن النواب الذين طلبوا الاستجواب هم عرابو الطائفية المقيتة في العراق.

بداية وقبل كل شيء كان المواطن العراقي يسمع ويقرأ عن الفساد المستشري في أركان الدولة في الحلقات التنفيذية وخصوصا من أركان الأحزاب المتسلطة المتنفذة، وكانت هذه الأحزاب تتقاسم الغنائم في ما بينها تحت بند (هذا لي وهذا لك) حيث تقسم الحقائب الوزارية على شكل تركات فهذه الوزارة للسنة وتلك للشيعة والأخرى للكرد ويتم التقسيم على مبدأين:

1- الوزارات السيادية: الدفاع والداخلية والنفط والمالية والخارجية وغيرها.

2- الوزارات التي ترصد لها مبالغ طائلة: التعليم العالي والصحة والتربية وغيرها.

هذه المحاصصة الطائفية والعرقية هي التي جلبت الويلات تلو الويلات إلى الشعب العراقي وما زالت تنخر في الجسد العراقي، والأكثر من هذا فبعد أن تتم عملية المحاصصة الطائفية للوزارات تبدأ عندها المزايدات على بيع الحقيبة الوزارية من قبل الأحزاب وعادة ما تكون الحقيبة من حصة من يدفع السعر الأعلى أو الذي يتكفل بتوفير أكبر قدر من السيولة للحزب، لكن نقول إن لكل حالة استثناء، ورغم أن السائد والمتعارف عليه في تشكيل الوزارات العراقية بعد وصول القادة الذين جاء بهم الأمريكان هي المحاصصة وتكليف المتمكن الملبي والموفر للمال لشلته وحزبه في إسناد الحقائب الوزارية. وهنا لا بد من العودة للوراء قليلا لنعرف القليل عن هولاء السياسيين، فقد ذكر الأستاذ الدكتور عدنان الباججي وهو وزير عراقي سابق، ذكر هذا الوزير بأنه أثناء مقابلة الرئيس السابق صدام حسين في معتقله بعد الاحتلال استغرب الرئيس السابق من وجوده مع هولاء الذين كانوا هم عرابي المعارضة العراقية في الخارج أي بمعنى أنه لا يليق به أي الباججي أن يكون مع هولاء. والذي يجب أن يقال إن الدكتور عدنان الباججي لم يتمكن من الحصول على أي منصب رسمي في الدولة العراقية، وأولى المقالب وأقواها التي نالها كانت عندما ترشح لمنصب رئيس العراق لمدة سنة واحدة وكان هو المرشح الأوفر حظا لكنه استبعد بشطارة من الرئيس العريس غازي الياور عندما اتهمه متعمدا بأنه مرشح الأمريكان حيث انسحب من ترشيح نفسه للرئاسة استحياء من التهمة التي ألصقها له ابنه كما يحب أن يسميه.

وقبل أن نتطرق إلى موضوع استجواب وزير الدفاع العراقي من قبل البرلمان نُذكّر أيضا القارئ الكريم بكلام أحد النواب والذي اعترف أمام إحدى القنوات الفضائية العراقية  بأن معظم النواب يحصلون على رشاوي، وادعى بانه حصل على رشوة مقدارها ثلاثة ملايين دولار من قبل أحد النواب لغرض الموافقة على حصوله على عقد استثماري، فإذا فرضنا أن كل نائب من (معظم النواب) الذين قصدهم قد حصل على المبلغ نفسه حينها نصل إلى نتيجة مفادها أن المرتشين من النواب والذين يبلغ عددهم أكثر من مائتين من مجموع النواب الذين يبلغ عددهم 325، أي أن الصفقة التي أبرمت قد بلغ مقدار الرشوة التي دفعت من أجل إتمامها أكثر من ستمائة مليون دولار حاصل ضرب مائتي نائب في ثلاثة ملايين دولار، فكم هي أرباح صاحب الصفقة؟ والمؤكد أنها صفقة فضائية أي أنها غير موجودة على أرض الواقع بل على الورق حصرا.

نعود إلى موضوع استجواب وزير الدفاع وهو المشغول في هذه الأيام بمطاردة فلول داعش من المدن العراقية المحتلة، ففي هذه الأوقات العصيبة التي تمر على الساحة العراقية اصر هولاء النواب على استجوابه وهم غير مبالين بمعنويات المقاتلين عندما يشاهدون أن وزيرهم واقع بين مطرقة النواب وسندان الإرهاب الطاغي على الساحة العراقية وبدلا من أن يكونوا له سندا أصبحوا له ندا، ولكنه فهم الأمر وأيقن أن هولاء هم عبارة عن ثلة من رواد المصلحة الشخصية ومروجي الطائفية وهم غير معنيين بأية مصلحة عامة ولهذا فقد رد على هولاء بما يستحقونه وأحدث زلزالا  بنسفه مصداقية مجلس النواب ابتداء من رئيس المجلس وباقي الأعضاء الساعين إلى إعاقة أعماله.

ذكر الوزير أن أحد النواب طلب منه الموافقة على عقد شراء ناقلات مصفحة أمريكية (همر) مستعملة عدد 1300 غير مستوفية لشروط السلامة لكنها مستوفية لشروط الطامعين للمال الحرام لكون أن الشراء سيكون بسعر ستين ألف دولار من قبل التاجر الأول وهو بدوره سيقوم ببيعها لهولاء الطفيليين بسعر 140 ألف دولار ويقومون هم بتزويدها لوزارة الدفاع العراقية بسعر 600 ألف دولار، وعلى حد زعم النائب أن هذه الصفقة كانت من حصة رئيس مجلس النواب.

والشيء الثاني الذي لا يقل عن الأول فداحة هو أن نائبا آخر طلب منه أن يحيل له بدون أية إجراءات قانونية أصولية مسألة إطعام الجيش، وكلفة هذه الصفقة تتجاوز المليار دولار لمدة سنة واحدة، ووصلت بهولاء النواب إلى أنهم طلبوا منه توقيع عقود فضائية تجلب لهم المال ليستمتعوا به في سفرهم إلى خارج العراق لتمضية أعياد الميلاد.

نائبة أخرى كانت هي أيضا ممن طلبوا الاستجواب بسبب امتناع الوزير عن المصادقة على قرار تحويل أملاك الأجهزة الأمنية المنحلة والمقرات الحزبية للنظام السابق لصالحها والتي بلغت أكثر من مائة وأربع وعشرين بناية وأرض بثمن بخس.

هذه بعض النماذج التي ذكرها الوزير أمام مجلس النواب وأمام الملأ عن الفساد المستشري في أعظم مؤسسات الدولة هيبة واحتراما.

إن هذه الوقائع قد أحدثت هزة شديدة في أوساط الرأي العام العراقي، وأنهت إلى الأبد مصداقية أعضاء المجلس النيابي في العراق للأعضاء الذين ذكرت أسماؤهم على وجه الخصوص أو على الأقل إن لم نقل مصداقية المؤسسة التشريعية بوجه عام لأن الكثير من الملفات الفاسدة لا زالت غير معلنة لأنها واقعة تحت تأثير السكوت المتبادل للمفسدين من كل الأطراف، وبغض النظر عن الأصوات التي ارتفعت من هنا وهناك من النواب الذين ذكرت أسماءهم في قائمة المفسدين أو النواب الذين تبرعوا بالدفاع عن أقرانهم فإن العراق قد دخل عهدا جديدا من انعدام الثقة التامة بين الشعب وبين كل القيادات السياسية، إضافة إلى فقد ثقة أولئك الذين كانوا مؤيدين لهذه القيادات في السابق، وعلى أثر ذلك فقد أحدثت هذه الصراعات بونًا واسعًا بين الشعب وبين القيادات الدينية والأحزاب المروجة لانتماءاتها الطائفية (الدينية) والعرقية.

والجدير بالذكر أن وزير الدفاع العراقي لا ينتمي إلى أي حزب سياسي، وهو الوحيد الذي نال الحقيبة الوزارية بجهده الذاتي لكونه مهندسا وحاصلا على شهادة عليا تؤهله لأن يكون في موقع إداري، إضافة إلى كونه من منتسبي المؤسسة العسكرية.

وما ذهب إليه بعض المراقبين من أن الخاسر الرئيسي في ادعاءات واتهامات الوزير هو المكون السني لأن النواب المتهمون من الكتل الشيعية باستطاعتهم الإفلات من كافة التبعات القانونية والشخصية والمعنوية حسب رأي هولاء المراقبين، ولكن الحقيقة أن الوزير استطاع ولأول مرة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق أن يحول موضوع الفساد المستشري في العراق إلى قضية رأي عام ووحد كل الأصوات الوطنية التي نادت بمحاربة الفساد أيا كانت طائفته اوتخلت وبشجاعة عن النظرة الضيقة التي سادت المجتمع جراء التأثير الكبير للكتل المتخندقة خلف عباءة الطائفية والدفاع عنها، ولذا فإن الكثير من ملفات الفساد ستظهر والذي سيقوم بإظهارها هم قادة الكتل أو الوزراء قبل أن يظهرها غيرهم رغبة في تقليل الخسائر الجسيمة التي سينالونها في حالة تأخير إبراز هذه الملفات، لكن من المؤكد أن السياسين والزعامات السياسية ورغم قبولها بالأمر الواقع وقيامها طوعا بكشف الحقائق في الفترة القادمة، تخشى كثيرا من فتح ملفات مهمة جدا كتلك التي أدت إلى عزل قادة كبار وملاحقتهم قانونيا تحت ذرائع مختلفة ومنها قضية نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي والذي أُبعد بدعوى الإرهاب، إضافة إلى ملف سقوط الموصل ومجزرة سبايكر وملف وزير التجارة الهارب وغيرها.

بقي أن نقول إن هذه هي البداية، والبداية هي كشف الأوراق أمام الشعب العراقي وتجاوز العراقيين مسألة الطائفية عند محاسبتهم للفاسدين لأن موجة المحاسبة التي أطلقها الوزير عالية جدا وستغطي رؤوس كل الفاسدين.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس