جلال سلمي - خاص ترك برس

لا يمكن وصف لقاء أردوغان وبوتين في سانت بطرسبرغ، لأول مرة بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل القوات الجوية التركية، بتاريخ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، إلا بلقاء الصديقين الحميمين اللذين تربطهما القواعد الاقتصادية المتينة وتفرقهما بعض من الخلافات السياسية التي مهما عظمت حدتها، لن تقدر على إبعادهما عن بعضهم البعض طويلًا.

اتفق الطرفان على فتح صفحة جديدة والبدء من الصفر في تسطير محاور العلاقات التركية الروسية، وأكّدا على ضرورة إعادة طرح مشاريع الطاقة والمشاريع الاقتصادية الأخرى على الطاولة من جديد. شمول اللقاء القصير الكثير من المحاور يدل على مدى قوة وتشعب الأواصر الرابطة للعلاقات بين الطرفين.

بالرغم من سعي اللوبي الأرمني والكردي واليهودي وغيرهم من تكريس وسائل إعلامهم ونفوذهم السياسي داخل روسيا لإذكاء الأزمة بين الطرفين، لترسيخ الجفاء الدبلوماسي والاقتصادي بينهما، إلا أن الخسارة الاقتصادية الجمّة المتوقعة للطرفين، دفعتهما لاتباع العقلانية والواقعية، والتخلي عن التعنت ذي التكلفة العالية.

تبادل تجاري بحجم 19 مليار دولار وتبادل استثماري ببالغ 2.5 مليار دولار، فضلًا عن التبادل السياحي الكثيف بين الطرفين وخطوط نقل الطاقة الضخمة؛ جميعها عناصر أرغمت الطرفين لتفضيل سياسة الاتزان الحصيفة على سياسة التهور الخاسرة.

إلى جانب الدوافع الاقتصادية التي ساهمت بشكل أساسي في تقريب الطرفين إلى بعضهما البعض، لا يمكن إغفال دور القضايا السياسية العالقة، مثل سوريا وجزيرة القرم وحوض البحر الأسود والخلاف الأذربيجاني الأرمني وغيرها، في اضطرار الطرفين إلى عقد الخناصر على محاور اتفاق جديد.

على الصعيد الاقتصادي، لا يساور أي متابع الشك في أن التعاون الاقتصادي بين الطرفين سيعود إلى ما كان عليه من ازدهار، وهذا أمر لا يحتاج أن يناقشه اثنان، فالطرفان كانا على وقع علاقات اقتصادية صلبة قبيل اندلاع أزمة الطائرة، وقد تكبدا خسارة جسيمة نتيجة لها، وبالتالي ذلك سيدفعهما إلى تفعيل التعاون الاقتصادي السابق بشكل أفضل مما كان عليه.

الأهم في ذلك السياق هو النتائج السياسية للقاء، إذ أن ذلك سيعود بالفائدة الكبيرة على الأزمة السورية المستمرة منذ خمسة سنوات. قد يقول قائل لم يحل الطرفان القضية قبل الأزمة، بالرغم من وصولهم إلى درجة التوافق الاستراتيجي، فهل سيتجهان لحلها بعد اللقاء المذكور؟ تساؤل في محله، والإجابة عليه يمكن أن تكون نعم، لأن تركيا وروسيا تلقنتا الدرس السوري جيدًا. الولايات المتحدة تسعى لتقسيم سوريا أسوة بالمثال العراقي، لترسيخ قدمها في إحدى المحاور المقسمة. تقسيم العراق، كما هو ماثل أمام الجميع، أفضى إلى أزمات سياسية وعسكرية داخلية لم تنتهِ حتى الآن، وبالنسبة لتركيا وروسيا فليس لهم أي موطئ قدم قوي في العراق، إذ النصيب الأكبر لإيران والولايات المتحدة الأمريكية. إلى جانب ذلك، حالة عدم الاستقرار المستمرة في العراق منذ احتلاله وحتى الآن، أثرت سلبا ً على أمن واستقرار المنطقة، مما أصاب المصالح التركية والروسية بهزة مباشرة وغير مباشر. أيضًا استمرار الأزمة السورية لعامها الخامس استنزف الجهود الدبلوماسية السياسية والموارد الاقتصادية لتركيا وروسيا اللتين أصبحتا على يقين بأن سياسة الحراب في سوريا، لا تجدي نفعًا، بل تزيد من عقدة الأمور يومًا بعد يوم، فالخطر الكردي الاستراتيجي يقض مضاجع تركيا، واحتمال تجزئة سوريا يزعج روسيا، لذلك هناك قناعة تركيا روسيا بضرورة حل الأزمة السورية على طاولة الحوار بعيدًا عن سياسة دعم الأطراف المقربة، والمتوقع هو تناسل محور تركي ـ روسي ـ إيراني، لتعجيل حل الأزمة التي لم يتمكن أي طرف من حسمها لصالحه. في هذا الإطار، الحديث عن بقاء الحلم الكردي في إقامة دولة مستقلة في شمال سوريا مجرد حلم خيالي، لا يعني الابتذال في التوقع بل يعني الواقع الذي سيترجم برفع الطرفين "التركي ـ الروسي" لوتيرة التعاون المتبادل فيما بينهما.

في هذه الغضون، سيعود ملف التعاون الروسي التركي الإيراني الخاص بمساعدة الحكومة العراقية إلى الواجهة من جديد. الملف كان فاعلا ً بحيوية قبل توتر العلاقات التركية مع روسيا وبالتالي مع إيران وبالتالي مع العراق، والدليل على ذلك طلب الحكومة العراقية إرسال بعض قواتها التدريبة إلى بعشيقة، وعدم اعتراض روسيا وإيران على ذلك. ليس من مصلحة الثلاثي تقسيم العراق إلى دويلات، لذا ملف التعاون فيما يتعلق بمساعدة الحكومة العراقية، سيشغل حيزا ً مهما ً في مشاوراته التي ستتبع اللقاء.

ليس من الواقعية الحديث عن إمكانية ظهور حل جذري لأزمة جزيرة القرم التي يشكل التتر، ذوو الأصول التركية، الأغلبية فيها. الاستناد في ادعاء ذلك إلى قرارات الأمم المتحدة التي دعت روسيا للانسحاب وقرارات الاتحاد الأوروبي التي اعتبرت وجود القوات الروسية في جزيرة القرم "عملية احتلال" صارخة وفرضت حصار اقتصادي على روسيا، ما زال مستمر حتى الآن. عدم اعتبار روسيا لقرارات الأمم المتحدة ومقاومتها لقرارات الاتحاد الأوروبي الفارضة عليها الحصار، إشارتان واقعيتان عن صعوبة حل أزمة القرم مع التوافق التركي الروسي. كما أن تلك الأزمة لم تجد الحل قبل نشوب الأزمة التركية الروسية أصلًا.

ستأخذ تركيا توافقها مع روسيا بعين الاعتبار، وستخفف من حدة التعاون العسكري المتنامي مع أوكرانيا، ولكن ذلك لا يعني انعدامه بالكامل، فتمادي روسيا في قطع العلاقات الدبلوماسية مع تركيا "الصديق الاستراتيجي"، لقاء حادثة إسقاط طائرة مخترقة للأجواء بشكل صارخ، أمد تركيا بدرس تاريخي يُشير إلى ضرورة الإمساك بأوراق احتياطية، تحسبًا لأي تدهور آخر.

الاتجاه لتعجيل حل الأزمة الأذربيجانية الأرمنية. أذربيجان الحليف التاريخي والقومي لتركيا، أما الأرمن فهي مرقد استراتيجي نافذ لروسيا في القوقاز. طفى على السطح اشتباكات متبادلة بين الطرفين على محور إقليم "كاراباغ" بتاريخ 2 نيسان/ أبريل من العام الجاري، ولكن لم تستمر طويلًا كما العادة، بل أعلن الطرفان وقف إطلاق النار في 5 أبريل. العامل الأساسي في إعلان الطرفين وقف إطلاق النار انشغال روسيا وتركيا في ملفات أخرى خاصة سوريا. الطرفان المشغولان في قضايا أخرى، سيتجهان لتعجيل حل الأزمة الأذربيجانية الأرمنية لكفالة عدم ظهور اشتباكات في الوقت الحالي على الأقل.

جنح الناتو للتقارب مع تركيا في سياق سياسة التوازن. أعلنت عدة دول من الناتو، وعلى رأسها ألمانيا وهولندا، العام الماضي سحبها لأسلحتها الدفاعية من تركيا، لانتهاء الخطر الذي يستدعي ذلك. ما سيُشهد بعد التقارب الروسي التركي، هو جنوح الناتو للتقارب إلى تركيا، بشكل يحد من حجم تعاونها السياسي والعسكري مع روسيا.

تلك تصوّرات تبقى مستندة إلى تحليل توقعي يحتاج إلى انتظار لبعض الوقت للتثبت من واقعيته.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس