ترك برس

اعتبر مدير عام قناة العرب الإخبارية الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي، إن العرب مشغولون بصراعات الهوية التركية أكثر مما ينشغل بها الأتراك، بل إنهم بالكاد منشغلون بها بعدما استقرت في وجدانهم ثلاثة مبادئ هي الجمهورية والعلمانية والديمقراطية.

جاء ذلك في تدوينة له نُشرت على مدونات الجزيرة، حيث أشار إلى أن التركي مشغول أكثر بعدد الطرق التي سيمدها والجسور التي سيشيد، وكم مصنعا جديدا سيفتتح، فالاقتصاد والرخاء هو ما يشغلهم، أما سؤال "من نحن"؟ فلقد أجابوا عليه منذ زمن، وترسخ بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.

وإلى كامل التدوينة..

تابعت تجمع الديمقراطية والشهداء الذي احتشد فيه الأتراك، واختتموا به اعتصاماتهم ضد الانقلاب الفاشل.. غابة من الأعلام الحمراء، لكني انتبهت إلى أعلام قليلة رُفِعَتْ، أحدها شعار الدولة العثمانية، والثاني راية زرقاء وعليها ما يشبه الأحرف اللاتينية (IYI) عرفتها فورا، إنها راية قبيلة الكاي، التي ينتسب لها بنو عثمان.

لم أعرفها لأني ضليع في التاريخ العثماني، وإنما لمتابعتي -وبنهم شديد- مسلسل قيامة أرطغرول، وليس هذا اسمه الصحيح ولكن هكذا سموه في يوتيوب، إذ لم يبث على أي قناة عربية، ولكنه راج وانتشر عربيا بعدما حملته أكثر من جهة وبترجمة ركيكة إلى هناك، فانتشر وراج وأصبح له جمهور ومتابعون، ابحث في تويتر عن "أرطغرول" وسوف تجدهم.

ما إن رأيت الرايتين حتى فكرت في كُتَّاب أعمدة أسميتهم "الدون كيشيتيون" فهم مثل "دون كيشوت" بطل الرواية الشهيرة، يصنعون فرسانا أشباحا، ومؤامرات وهمية، تكاد تطبق على هذه الدولة أو تلك، ثم يعملون فيها أقلامهم بمقالات نارية.

يفندون مزاعم مفترضة وأقوالا متوهمة، تدور حول توسع "الإمبراطوية" وعودة الخلافة، وطموحات الزعيم الذي يريد أن يكون خليفة، وحدودا تزال، وأوطانا تختفي، وممالك تسقط، وجمهوريات تختفي، وبالطبع -ومثل دون كيشوت- ينتصرون في النهاية، فيفندون أقوال أنصار الخليفة، ويفككون مخططات الساعين لإحياء الإمبراطورية.

إذ إنهم يحاجون أشخاصا غير موجودين، ومزاعم لم يقل بها أحد معتبر، متوهمين قوة حجتهم، وصدق إيمانهم، وعمق وطنيتهم، ويختمون مقالهم بعبارة إنشائية مثل "وحينها ستتكسر أشرعة الغزاة والمتآمرين، وتحرق شمس أوطاننا مخططاتهم على رمال بلادنا الحرة الأبية".

راية عثمانية ترفرف في سماء إسطنبول، بينما ينظر إليها بفخر الرئيس رجب طيب أردوغان (الخليفة المتوهم لدى الدون كيشيتيون)، وفوق ذلك طبول فرقة المهتران تقرع بموسيقى الحرب العثمانية، وقبل ذلك كله تلاوة قرآنيه تختم بالآية "وأخرى تحبونها، نصر من الله، وفتح قريب، وبشر المؤمنين".

هل هناك دليل أقوى من هذه؟ أتخيل زميلي الدون كيشوتي يقول ذلك وهو يستعد لكتابة مقاله، محذرا من الخطر التركي القادم بعدما فشل الانقلاب!

ولكني تابعت الموضوع قبل أن أكتب تدوينتي هذه، وحتى لا أكون دون كيشوت آخر يكتب عن توهمات. بالفعل غرد أكثر من مثقف وباحث عربي عن قلقهم من الصعود العثماني، ولكن صديقي الدون كيشوتي لم يكتب مقاله بعد، وأرجو ألا يفعل، فهذه المسألة مجرد وهم، والأتراك أنفسهم غير مشغولين بها، وترجمة مظاهر الاحتفاء بالعثمانية هي أبعد ما تكون في مخيلة المثقف التركي عن فكرة إحياء الخلافة، بل إن إسلامييها باتوا يضيقون بحدية عندما يطرح إسلامي عربي متحمس عليهم مسألة الخلاص من العلمانية، أو تحكيم الشريعة، فهم ليسوا بمعرض هذا على الإطلاق، وكأنهم يقولون "من يريد أن يعجب بنا وبتجربتنا فليفهما ويأخذنا كما نحن".

في اليوم التالي لمظاهرة الأحد الكبرى اتصلت بالصديق محمود عثمان المقيم في إسطنبول والمتابع للصحافة التركية ويصدر نشرة يومية بخلاصتها، سألته عما إذا كان أي معلق تركي اهتم بقصة رفع الراية العثمانية أو راية قبيلة الكاي، فأجاب بالنفي، شرح لي أن العثمانية في تركيا تراث حضاري يفخرون به، مثلما يفعل العربي مع فتوحات المسلمين الأوائل وبطولات صلاح الدين، أو هارون الرشيد.

ولكن مثلما لا أحد بيننا يدعو إلى إحياء خلافة أموية أو عباسية عربية، فهم أيضا لا يدعون ولا يفكرون بإحياء عثماني أبعد من الإحياء التراثي والحضاري، واتفقنا على أننا نحن العرب مشغولون بصراعات الهوية التركية أكثر مما ينشغل بها الأتراك، بل إنهم بالكاد منشغلون بها بعدما استقرت في وجدانهم ثلاثة مبادئ هي الجمهورية والعلمانية والديمقراطية، وأن التركي مشغول أكثر بعدد الطرق التي سيمدها والجسور التي سيشيد، وكم مصنعا جديدا سيفتتح، فالاقتصاد والرخاء هو ما يشغلهم، أما سؤال "من نحن"؟ فلقد أجابوا عليه منذ زمن، وترسخ بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.

لقد استشهد أردوغان "الإسلامي" بأتاتورك في كلمته يوم الأحد الماضي، ووصف دولت بهشتلي القومي الأتراك بأنهم نسل الفاتحين الإسلاميين الأوائل، واستدعي الأتاتوركي زعيم حزب الشعب كمال كلتشدار أوغلو آية من القرآن، تدعو للتفكير والتدبر.

إذ، لا خلافة، ولا دولة عثمانية، ولا إمبراطورية، فلننصرف مع إخواننا الدون كيشيتيون نبحث كيف نستطيع أن نرتب من جديد شرق أوسطنا المنهار، لنطمئن أنه ما من أحد يريد تغيير حدوده، ولكن لنقلق على شعوبه التي انسابت في طوله وعرضه لاجئة بائسة تبحث عمن يترفق بها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!