برهان الدين دوران - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

بالنسبة لكثير من الأتراك يبدو وكأن سوريا والعراق يتنافسان على جذب انتباههم. فبمجرد أن اتجهت الأنظار إلى الموصل، تصاعد الوضع في شمال سوريا مرة أخرى عندما استهدفت الغارت الجوية التركية ميليشيات وحدات حماية الشعب التي هاجمت الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا. ووفقا لبيان القوات المسلحة التركية، قتل في هذه العملية ما بين 160 إلى 200 إرهابي. تمثل الغارات الجوية رد فعل تركيا على محاولات حزب الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني تأجيج التوتر بين أنقرة وواشنطن. وفي الوقت نفسه رفضت أنقرة أن تشاهد عملية الموصل من بعيد، حتى لو كان التدخل التركي يعني المخاطرة بمشاكل إضافية مع العراق.

كانت أنقرة، حتى قبل بضعة أشهر، غير مستعدة لإصدار تحذيرات للمجتمع الدولي إزاء الأزمة الإنسانية، وتزايد التهديدات الإرهابية في الشرق الأوسط. لكن على النقيض الآن يتزايد اعتماد الأتراك على أدوات القوة الصلبة. وبإطلاق العملية البرية لإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا على مساحة 5000 كم، أوضحت أنقرة لبغداد بأنها لن تسمح بوقوع اشتباكات طائفية في الموصل.

ومن الواضح أن التغيير الجذري في موقف تركيا يتجاوز التزام الأتراك بدعم أصدقائهم من اللاعبين المحليين، بما في ذلك الجيش السوري الحر وقوات البيشمركة والحرس الوطني في نينوى. ما نشهده هو ولادة عقيدة أمنية جديدة.

وبمواجهتها لحربين أهليتين وراء حدودها الجنوبية أعادت القيادة التركية تشكيل سياستها الخارجية على طول مسارات مفهوم جديد للأمن القومي، حيث يريد الأتراك توجيه المعركة إلى الجماعات الإرهابية، مثل داعش، وحزب العمال الكردستاني، وجماعة فتح الله غولن الإرهابية "فيتو". وبدلا من الدفاع تسعى تركيا للقضاء على التهديدات بإجراءات وقائية واستباقية.

وعلى حد تعبير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فإن ما يحدث الآن هو على النحو التالي "تخلت تركيا عن المقاربة الأمنية المضللة. تمضي تركيا قدما. لن ننتظر قدوم المشاكل وهي تطرق على بابنا. لن نبقى صابرين حتى آخر لحظة ممكنةـ أو أن نقبل الغرق في المستنقع حتى يصل إلى حلوقنا. بدلا من ذلك فإننا نواجه المشاكل. لن ننتظر الجماعات الإرهابية حتى تستهدفنا. سوف نواجههم في أي مكان كانوا، وفي أي مكان ينشطون فيه، وفي اي مكان يتجمعون فيه".

الإصلاح السياسي المستمر على المستوى التقني له نتائجه التالية: إعادة هيكلة الجيش لتحسين القدرات على العمليات الخارجية، وإطلاق قواعد عسكرية جديدة في الخارج، وإعادة تشكيل جهاز الاستخبارات الوطنية، والتركيز على الاستخبارات الأجنبية، ودعم الصناعات العسكرية المحلية.

وعلى خلفية التغييرات الكبيرة في مجال الأمن القومي، تخضع السياسة الخارجية التركية لعملية تحول تاريخي. وفي هذا الصدد سيكون من الخطأ أن نفترض أن تصريحات الرئيس أردوغان الأخيرة حول معاهدة لوزان، والقسم الوطني، ومستقبل الموصل ترتبط بالسياسة الداخلية، حيث سعى البعض إلى تناول هذه التصريحات على أنها دليل على الأطماع التوسعية التركية، وطموحات العثمانية الجديدة.

على أن الأمر على النقيض تماما، حيث يحاول الأتراك التكيف مع سقوط النظام الإقليمي، والزيادة الخطيرة في عدد الدول الفاشلة في الجوار التركي. يدرك الأتراك بعملهم هذا أن السياسة الخارجية الانعزالية لفترة الجمهورية التركية لم تمنع العوامل الخارجية من الإضرار بالمصالح التركية. تقبلت القيادة التركية حقيقة أنه ليس لديها من خيار سوى مواجهة التهديدات الأمنية عبر الحدود، بشرط ألا تكون لدى حلفائنا الولايات المتحدة والأوروبيين مشكلة بتعاونهم مع المنظمات الإرهابية.

مع اضمحلال الإمبراطورية العثمانية كان على الأتراك قبول النظام الإقليمي الذي فرضه عليهم أعداؤهم. وبعد مائة عام، فإن من يُطلق عليهم أصدقاؤنا يجبرون تركيا على إعادة النظر في هذا الوضع. وبعد تسببهم في جعل سوريا والعراق على شفا الانقسام، فإن لدى الأمريكيين ترف الحديث عن علاج إخفاقات جورج دبليو بوش وباراك أوباما بوصف ذلك موضوعا آخر في السباق الرئاسي. وذلك في الوقت الذي يواجه فيه السكان المحليون في البلدين توترات طائفية وتعميقا للتطرف والدمار. إن العقيدة الأمنية الجديدة هي وسيلة تركيا للاستجابة للظروف المتغيرة.

عن الكاتب

برهان الدين دوران

مدير مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية "سيتا" في أنقرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس