محمد قدو أفندي أوغلو - الرأي اليوم

 يبادر إلى الأذهان السؤال الموجه إلى الأدباء والشعراء والمثقفين بصورة عامة عن سبب التزام معظم الكتاب إلى عدم إدراج التربية المجتمعية في نتاجاتهم الثقافية والأدبية واقتصارها على الشخصيات النمطية التي تبلي بلاء في المجتمع، سواء كان هذا التفاعل الإنساني أو النمطي من خلال الشخصيات التي تم اختيارها ذو تأثير إيجابي أو سلبي على المجتمع، خاصة أن أثر تلك الشخوص على الثقافة والتقدم المجتمعي باطراد متجانس مستقبلي لا تمحى آثاره بانتهاء عصر وديمومة تلك الأعمال الأدبية، أم أن تلك القراءات لا تعني إطلاقا فرض حالة من الثقافة المستقبلية والتكيف الاجتماعي لما يحدث من تحولات علمية وفنية وانتشارها انتشارا سريعا وواسعا في طبقات المجتمع وخصوصا بين اليافعين والشباب عبر وسائل الاتصال الميسرة لكل الطبقات.

لم يكن الأدباء العرب هم وحدهم الذين يتميزون بهذا التوجه من الأدب بل إن الغرب أكثر ابتلاء من العرب بهذا الانحسار، ويرجع السبب في هذا التوجه إلى سعي معظمهم إلى استثمار أعمالهم في مشاريع ذات مردود إضافي، وفي الوقت نفسه وجود دافع التمني والرغبة في إظهار هذه الشخوص ودعم انتشارها، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإننا ومن خلال اطلاعنا على مجمل الأعمال الأدبية وخصوصا الروائية نلمس الصعوبة الكبيرة التي يواجهها هولاء المؤلفون من اتساع نطاق شمولهم للشخصيات المختلفة وإن وجدت هذه الشمولية فإنها تختزل الكثير من هذه الشخصيات وتدعها تتحرك بمسافة وبلون يزيد من إبراز البطل الحقيقي الأساسي في الرواية.

في الحقيقة وليس سرا أن معظم الروائيين والشعراء لا يمتلكون الموهبة القادرة على التحكم بمعظم شخصيات نتاجهم الأدبي، وخصوصا إذا كانت هذه الشخصيات المختارة تمتلك خاصية محورية تنتهي معالمها بأحداث تراجيدية تخلقها الظروف الخارجية توثر بشكل مباشر في رسم نهاية متميزة، وبالتالي فهم يتجنبون قدر استطاعتهم حشر عدة أبطال في العمل الأدبي منذ بداية الرواية ومعالجة حالاتهم بالتزامن مع البطل الحقيقي للرواية حتى نهاية الرواية معالجة حقيقية مستقلة تماما عن توجه البطل الأوحد في العمل الإبداعي الأدبي، وهناك شواهد كثيرة تدعم كلامنا هذا.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ التي لاقت أصداء واسعة وانتشارا كبيرا وتمت طباعتها عشرات المرات على مدار نصف قرن منذ بداية نشرها ولحد الآن، والتي تعتبر بحق صرخة شديدة ومحذرة من انهيار الكيان المجتمعي وخصوصا الكيان المثقف وضياع كل الفرص المؤاتية لاجتناب هذا السقوط المدوي للطبقة التي عليها الاعتماد في استمرارية وتقدم المجتمع - وللنقاد المختصين بالسياسة الثقافية كلام أبلغ من كلامنا وتفسير أوضح من تفسيراتنا - ولكن الذي نحن فيه أن نجيب محفوظ الذي كان بإمكانه توسيع قاعدة معالجاته بإضافة شخصيات معتبرة مضافة إلى شخوصه واشتراكه في إظهار صرخاته وعدم الاختصار على شخصية واحدة  صارخة، كما كان بالإمكان زيادة الرقعة الجغرافية لمكوث شخصياته.

لا يختلف اثنان على أن نجيب محفوظ أبلى بلاء حسنا في تقديمه للرواية، بل الأكثر من ذلك أن معظم علماء الاجتماع العرب يدرسون شخوص الرواية وكذلك شخوص ثلاثيته ويجدون فيه أبلغ تعبير واقعي وحقيقي للمجتمع. والدراسات الاجتماعية لشخوص هذه الروايات كثيرة وهي عبارة عن اقتباسات تمعن في حركة الشخصية الرئيسية في رواية ثرثرة فوق النيل والثلاثية (قصر النيل وبين قصرين والسكرية) من بداية ظهورها كشخصية محورية حتى اختفائها بانتهاء الرواية.

وكذلك رواية البؤساء لفيكتور هيوغو والتي يفترض بالنظر إلى عنوانها أن تكون شخصياتها متعددة الأنماط والأماكن والظروف، ولكنه اختصرها بشخصية اختزلت المأساة الإنسانية من ناحية وأظهرت تلاقي المأساة الإنسانية ونهايتها المحتومة المتعددة من جانب آخر. ولا ندري هل كان اختصاره مبتكرا ومبدعا أم كان من المفروض التقاء عدة شخصيات في عمله.

الذي أطمح إليه من الأدباء والروائيين على وجه الخصوص هو السعي إلى دراسة الشخصيات التي تلعب دورا إيجابيا أو سلبيا في المجتمع مجتمعة في عمل أدبي واحد، ومتباينة في تصرفاتها ودلالاتها، ومخلفة عدة أشكال من التباين الاجتماعي مع إعطاء مساحة متساوية لكل شخصيات العمل الإبداعي والروائي منذ أولى ظهورها وحتى انتهائها لغرض إيجاد تقييم حقيقي واسع لحركة المجتمع وتطلعه والمنغصات التي تواجه تقدمه واستقراره.

لا يغيب عن بالنا (رواية ضياع في سوهو) للأديب وعالم الاجتماع الإنكليزي كولن ويلسون والذي استطاع من خلال شخصيات هذه الرواية أن يلتقط مختلف الأنماط من الفنانين البوهيمين كطبقة دخيلة مؤثرة في المجتمع الإنكليزي المثقف، وفي الوقت نفسه ترك الباب مفتوحا أمام النقاد وعلماء الاجتماع في تصور نهاية هذه الطبقة بشخوصها الكبيرة والكثيرة والمتمثل بمنطقة واسعة من الشوارع الخلفية لأعظم المناطق أرستقراطية في لندن.

يقدم الكاتب الإنكليزي روايته الذي وضع فيها رأيه بكل صراحة عن الناس الذين يمثلون أنهم يعيشون حريتهم، والتي هي زائفة لا يطلق عليها اسم حرية، تحكي هذه الرواية قصة هاري “كولن ويلسون” الذي يتساءل في عالمه الضبابي “من أنا؟”، “وماذا سأفعل؟”، و”لم جئت إلى الحياة؟”.

لكن كولن ويلسون الذي ترك أركان روايته تحت الدراسة والنقد استطاع أيضا إضافة شخصيات نمطية أخرى واسعة في المجتمع، والذين يسمون باللامنتمي ”اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه... إنه ليس مجنونًا؟، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول... مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية... هو يريد أن يكون حرًا ويرى أن صحيح العقل ليس حرًا، ولا نقصد بالطبع الحرية السياسية، وإنما الحرية بمعناها الروحي العميق... إن جوهر الدين هو الحرية ولهذا: فغالبا ما نجد اللامنتمي يلجأ إلى مثل هذا الحل إذا قـُـيَّض لهُ أن يجد حلًا...!”. كولن ويلسون وهي كنية عن الذين يراقبون الواقع دون المشاركة الفعلية ودون إظهار هذه المشاركة إضافة إلى الامتناع عن تقييم حركة المجتمع عموما فوظف شخصياته واختزلها برواية (اللامنتمي) وهم أكثر من البوهيمين اندماجا في المجتمع لكنهم أقل تعبيرا عن رأيهم المخالف هذا ويخشون من التقرب من الفعاليات الاجتماعية الجديدة والمستدامة أيضا في الثقافة ولكنهم يخشون النقد والمراقبة.

نحن بانتظار عالم اجتماعي ونفسي يقيم توجه مجتمعنا ويضع إمكاناته العلمية لمعالجته حتى نتحرر من قسم من أمراضنا الاجتماعية بعد أن نتفحص أمراضنا الاجتماعية القديمة البالية والمستمرة لنبدأ من حيث انتهى ابن المقفع وشرح ما شرح الجاحظ وحتى ندحض قول عالم الاجتماع العراقي والذي وصف الرجل الشرقي بانه شخصية مركبة (نصفه حجي عليوي والنصف الآخر جيمس ستيوارت) وشتان بين الاثنين.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس