جلال سلمي - خاص ترك برس

لعل الموضوع قديم بعض الشيء، ولكن قدمه يمنحنا ميزة جيدة للتدبر في حيثياته بشكل أكبر، وفي ظل استمرار أتون ثورات الربيع العربي يبقى الموضوع ذو أهمية عالية.

على الرغم من اتساع فجوة العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا لإدبار الأخيرة عن مسار القطب الغربي أو الأمريكي واتجاهها لمسار تنويع العلاقات، إلا أنه يبدو أن بعض العوامل أدت لدفع الولايات المتحدة مرغمة للتعاون مع تركيا بشكل وثيق على أمل تحقيق إدارة مشتركة لثورات الربيع العربي، وأعتقد أن العوامل التالية هي العوامل الأساسية التي أدت لسعي الولايات المتحدة إدارة ثورات الربيع العربي عبر تركيا:

1ـ الرغبة في الحصول على جسر واصل بينها وبين ثورات الربيع العربي

لقد كانت ثورات الربيع العربي بمثابة الصدمة للإدارة الأمريكيَّة التي لم تستطع استخباراتها الوصول إلى معلومات مسبقة حول إمكانية انطلاقها، وهذا ما حصرها في زاوية التفكير العميق لإيجاد سبل للتعاطي مع هذه الثورات المفاجئة بشكل يخدم مصالحها، ولم ترَ في ذلك سوى التعاون الجسري بينها وبين الحكومة التركيَّة القريبة لنهج الإسلام السياسي، لأنها تعلم أن المواطن العربي الثائر ما زال يحفظ في ذهنه حجم الخراب الأمني والاقتصادي الذي أصاب العراق نتيجة حربها الساعية لتأسيس نظام ديمقراطي، وهذا ما يُعيق إدارتها المباشرة للثورات.

وفي ضوء ذلك، يُشير المفكر إيمنوال والشتين في نظريته "النظام العالمي والتبعيَّة" إلى أن النظام العالمي الحديث يقوم على نظام التبعيَّة الذي يعتمد على علاقات اقتصاديَّة وثقافيَّة وسياسيَّة وعسكريَّة يتم بمقتضاها توظيف موارد المجتمع التابع ومصيره وفقًا لمصالح الدول المركزيَّة المهيمنة، وعلى الأرجح فإن هذه النظريًّة هي الأنسب لإثبات وشرح العلاقة الجسريًّة بين أمريكا وتركيا والإخوان المسلمين في بداية ثورات الربيع العربي.

ووفقًا لتلك النظريَّة فإنَّ النظام العالمي المذكور يتكون من ثلاث فئات:

1ـ فئة الدول المركزيَّة؛ وهي الدول العظمى التي تحاول فرض سيطرتها على دول الفئات الأخرى للحفاظ على مصالحها.

2ـ فئة الدول شبه الفرعيَّة "الجسريَّة"؛ وهي الدول التي تحظى بموقع جغرافي استراتيجي ونظامًا سياسيًا واقتصاديًا مستقرًا نوعًا ما.

3ـ فئة الدول الفرعيَّة أو المتخلفة؛ وهي الدول التي تفتقد للاستقرار والديمقراطيَّة والتنمية الحقيقيَّة.

ويصعب على الدول العظمى التواصل بشكل مباشر مع الدول الفرعيَّة، وذلك لانعدام استقرارها ووجود بعض السخط الشعبي التاريخي اتجاهها، لذا تعمل على إدارة هذه الدول عبر دول الجسر التي تحظى بنفوذ سياسي واقتصادي وثقافي ملحوظ على صعيد إقليمي، وهنا يمكن إدراك الإدارة الجسريّة التي تعني إدارة دولة عُظمى لدول فرعية من خلال دولة قوية إقليمياً تعمل على ربط العلاقات بين الدول العظمى والدول الفرعية بمثابة حلقة الوصل.

وبما أن أمريكا تعلم بالنفوذ التركي المتنامي مؤخرًا فقد حاولت استغلالها كدولة جسريَّة بينها وبين بلدان شعوب الربيع العربي التي تنامى بها الفكر الإسلامي السياسي صاحب التأثير الأكثر مركزيَّة على شرائح واسعة من المجتمع الثائر والمتغنى بالنموذج التركي المتمثل بحكومة تركيا ذات التوجه الإسلامي السياسي.

2ـ النموذج الإسلامي المعتدل

امتاز النموذج التركي بهويَّة بنائيَّة إسلاميَّة معتدلة ناجحة شكلت الخيار الأمثل والأوحد لأمريكا للوصول إلى الشعوب العربيَّة وتقديم تركيا على أنها النموذج المثالي لبناء الأنظمة العربيَّة الجديدة، بغية مواجهة انتشار حركات الإسلام الأصولي المتطرف الذي شكل خطراً على أمن إسرائيل، وتؤكد نظريَّة العلاقات الدوليَّة البنائيَّة أن العصر الحديث يمنح الدول ذات الهوية القيّمة فرصة السيطرة أكثر من الدول ذات الهيمنة السياسيَّة، وعلى ما يبدو أنَّ الولايات المتحدة فقهت  تفوق الهويَّة التركيَّة على هويتها في التأثير على دول وشعوب الثورات، لذا استجدت التعاون مع تركيا.

3ـ المصلحة البينيَّة المتبادلة

لم يكن الحب الأمريكي التركي من طرف واحد، بل كانت تركيا أيضاً تحرص على التقرب من أمريكا والغرب، لإعادة لفت انتباههم إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي فقد أهميته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كانت تركيا بمثابة خط الدفاع المتقدم لحلف شمال الأطلسي ضد النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي رأت في هذه الثورات التي أقلقت مضاجع الغرب فرصة في استرجاع أهميتها الاستراتيجيَّة.

ربما يوجد عوامل أخرى أفرزت هذه العلاقة التي سرعان ما تحولت لعلاقة تنافسية عشية اتضاح النية غير الصادقة للولايات المتحدة في دعم الثورات المذكورة، وقد يكون المقال القادم متعلق بالعوامل التي أدت لتخلي الولايات المتحدة عن هذه العلاقة.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس