عبد العليم الكاطع - خاص ترك برس

في عام 1489 للميلاد وقّعَ أبو عبد الله محمد الصغير - المستغني بالله - آخر ملوك الأندلس من المسلمين معاهدة الاستسلام وذلك بعد أن قَمع انتفاضة أهالي غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة ووقف على تلة قريبة من قصر الحمراء - قصر الحُكم - في غرناطة وهو يبكي وينتحب قالت له أمه عائشة الحرة: (ابكِ مثل النساء ملكًا مُضاعًا لم تُحافظ عليه مثل الرجال) وبذلك خرج المسلمون خروجًا نهائيًا من الأندلس.

حَكم المسلمون الأندلس ثمانية قرون، ولم يتخيل أحد أن شمس الإسلام الساطعة هناك يمكن أن تغيب، لكن الأيام تحمل معها مفاجآت كثيرة. ولم يبقى أي ذكر للعرب والمسلمين في تلك البلاد، إلا أثار قديمة ومساجد حُولت إلى متاحف وكنائس. فتلك البلاد التي حُكمت بالإسلام مدة طويلة لا يعيش فيها اليوم من المسلمين إلا القليل وهذا درس مهم لابد أن نفقهه جميعًا.

ربما يكون التشابه كبيرًا بين ما جرى في الأندلس وما يجري الآن في بلاد الشام. مع تباعد الزمان والمكان.

ما جرى في الأندلس كانت حربًا استيطانية تطمس كل المعالم المخالفة لها. مذابح جماعية، تهجير وتدمير ومع الوقت تحول كل السكان إلى شهداء أو مُهجرين. ومع مرور الوقت طُمست معالم حضارة وطويت صفحة شعب بأكمله، ولم يبقَ لنا في الأندلس إلا العمارة شاهدًا على وجودنا هناك. اختفى العرب والمسلمون بالكلية من الأندلس.

لا شك أبدًا أن الجميع في ذلك الوقت فكروا باستعادة الأندلس واسترجاعها، وظن الناس أن هذا الغزو لن يستطيع أن يطمس الهوية الإسلامية في البلاد. لكن الأحوال في بلاد المسلمين في ذلك الوقت كان يسودها التفرق والضعف والوهن والتبعية. ولم يستطيعوا استرجاع أي شبر من الاندلس.

ومن المؤكد أيضًا أن اللاجئين والمُهجرين الذين خرجوا من الأندلس أملوا أنفسهم وفكروا بالعودة، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك لضعف إمكانيتهم وقلة حيلتهم.

وكان المؤرخون قديمًا عندما يتحدثون عن الأندلس بعد السقوط يقولون - أعادها الله - ولكن مع تقادم الزمن اختفى هذا الأمل من ذاكرة المسلمين ولم يعد يتردد على ألسنتهم؛ ولا حتى المؤرخين منهم. هكذا يومًا بعد يوم، جيلًا بعد جيل إلى أن جاء وقت وانمحت الأندلس من ذاكرة الجميع واختفى حُلم العودة.

ما أشبه اليوم بالبارحة! ومأساة الأندلس تتكرر من جديد؛ أين؟

في فلسطين وفي العراق وفي الشام. هي ذات الطُرق تُستخدم، مع اختلاف الزمان والمكان. قتلٌ وتدميرٌ، تهجيرٌ وترحيل، تعذيبٌ وتنكيل. إقامة للمستوطنات، تهجير شعب وإتاحة الفرصة لشعوب أخرى للعيش مكانه. وإن تُرك الأمر كما تُركت الأندلس فالمصير واحد لا محالة.

سوف تسقط هذه المدن من ذاكرتنا بالتقادم. فها هو اسم إسرائيل حل مكان فلسطين، ولا أعرف أي اسم سوف تأخذ بغداد وأي اسم سوف تأخذ حلب وديرالزور!

أو ربما ستحافظ هذه المدن على أسمائها كما حافظت قرطبة وغرناطة وسرقسطة. ولكننا نسمعها اليوم بلكناتهم الثقيلة ولغاتهم المختلفة حتى أصبحنا لا نستطيع تمييز لفظها العربي.

وربما يأتي زمان على أحفادنا يزورون فيه المسجد الأقصى أو المسجد الأموي، يقبلون الأعمدة والأعتاب ويبكون على تاريخ وحضارة وبلاد كانت يومًا من الأيام ملك أجدادهم. كما نزور اليوم مسجد قرطبة الكبير.

من منا اليوم يفكر باسترجاع الأندلس؟ لا أحد في زماننا يفكر جديًا بتحرير الأندلس، وبات هذا الأمر مستبعداً من الأذهان، لدينا فقط تمسك عاطفي وذكريات تدمي القلوب.
الأندلس اليوم دولتين تربطهما مع بلادنا علاقات وطيدة، وسفارات واتفاقيات، وشبابنا يتسابقون للهجرة إلى إسبانيا للعيش تحت قانونها المتطور، ويتمتعوا بميزات العيش هناك. أو تراهم يشجعون لاعبيهم ويتبنون شعاراتهم. ولا يكادون يتذكرون يومًا أن أجدادهم كانوا أصحاب الأمر والنفوذ هناك.
 
وقد يقول قائل إن اللاجئ الفلسطيني والعراقي لم ينسى أرضه، وها هي أجيال بعد أجيال تورث الأبناء حب الوطن، ويمنون أنفسهم بالعودة. وها هي الأمة تدعو للشام واليمن والعراق ومن قبلها فلسطين التي لا تزال حاضرة في القلوب.

إلا أن تجربتنا مع الأندلس تثبت أن كل هذا لا معنى ولا جدوى له. وأن الدعاء والذكريات والآمال لا تكفي ولا تغير من الواقع شيئًا، وستغيب من ذاكرة الأجيال مع الوقت.

ونرى هذا بشكل واضح اليوم فلم يعد خبر سقوط عاصمة عربية يحمل الوقع ذاته ولا يشكل في نفوسنا تلك المفاجأة العصية على التصديق، فهكذا أخبار وللأسف اعتدنا على سماعها والتعايش معها.

وسيطرت على ردود أفعالنا شيء كبير من البلادة، يحيطها نوع ساذج من الذهول على قدرة الأخر على التخطيط والتنفيذ وامتلاك عنصر المبادرة والمباغتة.

فبعد سقوط حيفا ويافا سقطت القدس ثم سقطت أم قصر ثم بغداد ثم صنعاء ثم الرقة وديرالزور وحلب، ولا أحد يعرف أي مدينة ستسقط بعدها.

ربما تختلف الجهات المسيطرة وأيضا تختلف النوايا والخطط؛ لكن هذا لا يغير شيئًا في المعاني، يبقى العدو عدو ويبقى السقوط سقوطًا.

ما أخطر ما نمر به!

أمتنا تفقد معالمها ومدنها وتفقد حتى هويتها. وما أشبه زماننا بزمان ملوك الطوائف!

تشرذم وضعف وتفرق ثم الانهيار والسقوط. كأننا نعيش عصر غروب الأندلس؛ حيث كانوا يتباكون كل يوم ـ مثلنا ـ على عاصمة تسقط هنا أو مدينة تسقط هناك.

ولتكون المقارنة كاملة؛ لا يمكن أن نتغافل بأن الأندلس على ضعفها في أيامها الأخيرة كانت حضارة منتجة مبدعة للعلوم والفنون والفلسفة والفقه والعمارة والشعر. ليس كحالنا اليوم، نعيش عالة على الأمم والحضارات، ننتج اللا شيء ونتفاخر بماضٍ لم نصنعه.

وأكبر صور التشابه هو أننا أشباه دول، والحكام والملوك والأمراء خيالات فحسب، والسيادة الوطنية وهم وشعارات فارغة المضمون والقوة المزيفة يضربون بها رؤوس الشعوب إذا أرادت أن تتنفس يومًا.

وعندما تنشب الخلافات بين ملوك الطوائف يستقوون على أبناء جلدتهم بأعدائهم الذين لا يوفرون أي فرصة لسلب مدينة هنا أو حصن هناك.

لا يسعني القول إلا إن: المصاب جلل والمدركون قليل، وأغلب الناس قد شربوا من نهر الجنون.

من وجد في نفسه همة فليحمل مع الأمة همها العظيم، ومن وجد في نفسه الكفاءة فليأخذ دوره ومكانه، ولا تتركوا الساحة للسذج المعتوهين. علنا نطيل عُمرَ هذه الأمة، أو ليقضي الله أمرًا كان مفعولا.

عن الكاتب

عبد العليم الكاطع

مهندس عمارة، مهتم بالفكر وقضايا الشباب، مقيم في السويد.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس