بكر محمد البدور - خاص ترك برس

إن تحول الدولة التركية الحديثة من النظام الإسلامي الذي ورثته من الدولة العثمانية، إلى النظام الجمهوري العلماني مرتبط بصورة كبيرة بشخص مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية إلا أن كثيرًا من الباحثين يجمعون على أن هذا التحول مبني على أرضية الإصلاحات التي بدأت بالظهور منذ القرن السابع عشر وبالتالي لم تكن العلمانية في تركيا وليدة اللحظة كما لم تكن من اختراع مصطفى كمال لكنها تبلورت بشكلها النهائي على عهده وارتبطت زمنيًا بمرحلة التنظيمات أو الإصلاحات.

وقد صاغ الكماليون مفهومًا جديدًا للعلمانية لا ينطوي على فصل شؤون الدين عن شؤون الدنيا وحسب كما هي العلمانية الغربية ولكنهم أرادوا إلغاء التدين باعتباره قوة مؤثرة في حياة المجتمع، ولما كانت العلمانية في تركيا مفروضة على الشعب بالقوة والإكراه وليست نابعة من إرادة هذا الشعب كان لا بد للكماليين من إيجاد مؤسسات تروج للعلمانية وتقوم بحمايتها واستمرار فرضها بكل أشكال القوة الناعمة والخشنة على حد سواء ومن أبرز المؤسسات الحامية للعلمانية في البلاد المؤسسة العسكرية إذ يعد الجيش التركي منذ قيام الجمهورية حامي قيم الجمهورية العلمانية والوصي الأمين على الالتزام بمقتضياتها.

وقد تدخل الجيش مرات عدة في الحياة السياسية عبر انقلابات عسكرية عديدة تحت ذريعة حماية العلمانية وقيم الجمهورية إلى جانب عدد كبير من المؤسسات الإعلامية فقد أخذت المؤسسات الإعلامية على عاتقها مسؤولية تحريض الجيش ضد الحكومات كما حدث في العام 1997 عندما هاجمت وسائل الإعلام حكومة نجم الدين أربكان لتأليب الشعب ضدها وبالتالي تقبل الانقلاب عليها لا حقًا كما يوجد جمعيات تمثل فئة من رجال الأعمال والصناعيين الأتراك التي تصنف ضمن المؤسسات البارزة التي تعمل على حماية العلمانية بغرض حماية المصالح الاقتصادية لمنتسبيها ناهيك عن المؤسسة القضائية، فرغم النصوص الصريحة في الدستور والقوانين على استقلالية القضاء وحياديته فإن المؤسسات القضائية على اختلاف مستوياتها انحازت صراحة إلى صف العلمانية خاصة في المسائل التي كانت تعد تهديدًا لتلك العلمانية ففي عام 2008 حرك الادعاء العام التركي دعوى قضائية ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم اتهم فيها الحزب بممارسة أنشطة مناهضة للعلمانية إلا أن المحكمة لم تحل الحزب نظرًا لتصويت 6 من أعضائها ضد قرار الحل مقابل 5 صوتوا لصالحه بفارق صوتٍ واحد لكن المحكمة غرمت الحزب على الخلفية ذاتها نصف مخصصاته المالية.

وضـع الـدســتور الـتركـي

كان النظام السياسي في العهد العثماني يقوم على قاعدتي الخلافة والسلطنة وكان السلطان يتمتع بسلطة مطلقة مرجعيتها الشريعة الإسلامية وكان التزام السلطان بتطبيق الأحكام الشرعية على الرعية يعد مصدرًا لشرعية وجوده في الحكم، ولم يوضع أي نظام دستوري إلا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي شكَّل لجنة لإعداد دستور للدولة برئاسة الصدر الأعظم مدحت باشا. ونُشر هذا الدستور تحت عنوان قانون أساس في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1876 وكان مستمدًا من الدستور البلجيكي ومن الدستور الروسي وتضمن 12 فصلًا و 119 مادة ونص هذا الدستور على تأسيس مجلس للنواب وآخر للشيوخ وأقرَّ بأن الإسلام هو دين الدولة لكن لم تكتب له الحياة إلا أقل من عام فقد جُمِّدَ العمل به مدة تزيد على ثلاثين عامًا إلى أن أعيد العمل به بمرسوم من السلطان في 23 يوليو/ تموز 1908.

وفي عام 1921 وأثناء حرب الاستقلال وُضع دستور جديد في تركيا وكان من أبرز محاوره إعلان مبدأ السيادة الوطنية  وتأسيس الجمعية الوطنية التركية  التي عُرفت فيما بعد بالمجلس الوطني التركي الكبير، واعتبرت هذه الجمعية الممثل الحقيقي الوحيد للأمة  خاصة في ظل رضوخ السلطان لمطالب الحلفاء وتوقيعه معاهدة سيفر وكان هذا الدستور يقوم على أساس نظام حكومة الجمعية كما هو الحال في الدستور السويسري حيث تناط كافة السلطات بالجمعية الوطنية أو البرلمان.

دســتور الـجمهـوريـة الـتركـية

كان الدستور التركي الذي أعلن بعد قيام الجمهورية يستند إلى دستور حرب الاستقلال عبر إجراء تعديلات عليه تهدف في المقام الأول إلى التخلص من كل بقايا العهد السابق بالإضافة إلى السعي الحثيث إلى تعزيز النظام العلماني في البلاد كما سبقت الإشارة وكان أول دستور في العهد الجمهوري قد أعلن في العام 1924 وقد حافظ هذا الدستور على الأطر الأساسية التي وردت في دستور عام 1921 خاصة فيما يتعلق بمبدأ السيادة الوطنية كما أكد الدستور على أن المجلس الوطني التركي الكبير هو الممثل الوحيد للأمة وعلى استمرار النظام البرلماني واستقلال القضاء.

ومع أن هذا الدستور نص على أن دين الدولة هو الإسلام إلا أنه أكد على عدم مسؤولية الدولة عن حماية الدين ومراقبة تنفيذ تعاليمه كما كان في العهد العثماني على اعتبار أن هذا الأمر ذاتي وشخصي وفي عام 1927 أعلن المؤتمر العام لحزب الشعب الجمهوري أن نظام البلاد هو نظام وطني شعبي علماني وفي عام 1937 تم إلغاء النص الدستوري الذي يقول بأن دين الدولة هو الإسلام واستبدل بنص يقول بأن الدولة التركية دولة علمانية ونظرًا لسيطرة مصطفى كمال ومؤيديه على المجلس الوطني الكبير، فقد عزز دستور 1924 حكم الحزب الواحد وهو حزب كمال حزب الشعب الجمهوري الذي استمر حتى عام 1945 وفي عام 1961 تم وضع دستور جديد للبلاد على إثر الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1960، واستند هذا الدستور بصورة أساسية إلى دستور عام 1924 إلا أنه جاء بتأسيس غرفة برلمانية ثانية هي مجلس الشيوخ، كما أضاف كلمة اجتماعية إلى وصف الدولة التركية، ولعل في ذلك تعبيرًا عن صعود التيارات اليسارية في عقد الستينيات من القرن العشرين على المستوى الدولي ورواج فكرة الدولة الاجتماعية، كما أتاح هذا الدستور التعددية الحزبية في البلاد واصطلح الباحثون على تسمية تلك المرحلة السياسية في تركيا بالجمهورية الثانية كما تضمن هذا الدستور فصلًا كاملًا بين السلطات الثلاث وأسس لأول مرة مجلسًا أعلى للقضاة والمدعين العامين واستحدث محكمة دستورية.

أما الدستور المعمول به حاليًا في تركيا فهو دستور عام 1982 الذي تم وضعه على إثر الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1980 وقد نص هذا الدستور على التعددية الحزبية في البلاد وعزز نسبيًا من حرية التعبير إلا أنه تضمن عقبات في وجه التطور الدستوري في البلاد نحو مزيد من الديمقراطية والانفتاحية وذلك بنصه صراحةً على أن المواد المتعلقة بشكل الدولة الجمهوري ولغتها التركية وحالتها العلمانية غير قابلة للنقاش أو التعديل وهذا يمثل تراجعًا حقيقا للوراء إذ أن السلاطين وهم أصحاب السلطة شبه المطلقة الذين كانوا يطبقون الشريعة قبلوا أخيرًا بحكم دستوري للبلاد ولم يذكر في الدستور العثماني الأول عام 1876 أن أي نص غير قابل للنقاش أو التعديل بما في ذلك ديانة الدولة ومرجعيتها ومن الملاحظ أن الدساتير التركية صيغت على وقع الانقلابات العسكرية، وبالتالي كان للمؤسسة العسكرية اليد الطولى في صياغتها وتحديد أطرها العريضة ولا ينطلق الحديث عن دستور جديد أو تعديل القادم من مجرد تحقيق طموح رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بالتحول إلى النظام الرئاسي فحسب بل ينطلق من حاجة حقيقة لعلاج اختلالات كبيرة فالدستور الحالي ليس واجب التعديل بل واجب التغيير لمواكبة التحول الديمقراطي الكبير في البلاد خاصة بعد ان نجح الشعب التركي وقيادته في إحباط المحاولة الانقلابية التي وقعت منصف شهر تموز من هذا العام.

عن الكاتب

بكر محمد البدور

باحث متخصص في الشؤون التركية وقضايا الشرق الأوسط يعمل باحثًا في مركز دراسات الشرق الأوسط / عمّان


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس