مجاهد ديرانية - ترك برس

لا بد أن كثيرين من قراء هذه المقالة قرؤوا كتاب جون بيركنز الشهير "اعترافات قاتل اقتصادي" الذي صدر عام 2004 فأثار ضجة كبيرة وتصدّر الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، منها اللغة العربية التي حملت نسختُها المترجَمة عنواناً فرعياً للكتاب: "الاغتيال الاقتصادي للأمم".

يعمل "القاتل الاقتصادي" -كما يقول بيركنز في اعترافاته- على اختراق القيادات السياسية والاقتصادية في دول العالم النامية وإقناعها بالحصول على قروض هائلة لتمويل مشروعات عملاقة ليس لها أثر حقيقي في نهضة البلد ونموّه الاقتصادي، وهو يعتمد على الوسائل القذرة التقليدية (الابتزاز والرشوة والفضائح الجنسية والعملاء والانتخابات المزوّرة، وحتى القتل والتصفية الجسدية) لإغراق الدولة بقروض تبلغ من الضخامة درجة هائلة، وحينما تعجز عن سدادها تغدو أسيرة لمؤسسات الإقراض الأمريكية والدولية وتفقد استقلالها وقرارها السياسي والاقتصادي. فإذا فشل القتلة الاقتصاديون في مهمتهم انتقلت الخطة إلى مرحلة التصفية أو الانقلاب، كما حصل مع رئيس الوزراء الإيراني المنتخَب مصدّق (الذي ارتكب "خطيئة" تأميم النفط الإيراني) والرئيس البَنَمي توريجوس (الذي حاول تحرير قناة بنما من السيطرة الأمريكية)  فإذا فشلت التصفية والانقلاب أرسلت أمريكا جيوشها لغزو البلد المستهدَف، كما حصل في العراق.

هل هذه هي الطريقة الوحيدة للاغتيال الاقتصادي؟ بالتأكيد لا، فعندما تفشل خطة إضعاف اقتصاد البلد عن طريق إغراقه بالقروض الهائلة يتم الانتقال إلى السلاح الآخر: تدمير اقتصاده عن طريق المضاربة بعملته المحلية. إن العملة تشبه أي سلعة أخرى من حيث استجابتها لقانون العرض والطلب، فإذا أردت تخفيض سعر سلعة من السلع فما عليك إلا أن تطرح في السوق كميات هائلة منها، أكثر من المقدار الذي يحقق التوازن المعتاد بين العرض والطلب، فينخفض سعرها على الفور. هكذا يصنع المضاربون بالعملات، وهذا ما صنعوه بعملات بلدان جنوب شرق آسيا عام 1997 فيما سُمِّي "أزمة النمور الآسيوية"، عندما تسبب المضاربون الكبار، وعلى رأسهم الملياردير الأمريكي اليهودي جورج ساوروس، في انهيار عملات أندونيسيا وتايلند وكوريا، وإضعاف عملات تايوان وماليزيا وسنغافورة والفلبين وهونغ كونغ بدرجة أقل، وكان للموقف الرجولي الصّلب الذي وقفه مهاتير محمد يومَها أثر كبير في حماية اقتصاد ماليزيا من الانهيار.

-2-

هل تتعرض تركيا حالياً لغزو اقتصادي؟ المؤشرات الظاهرة تدل على ذلك، فقد تعرّضت عملتها للمضاربة وودائعها للسحب وتجارتها للتضييق، وهو أمر أكدته تصريحات علنية لعدد من كبار المسؤولين الأتراك مؤخراً.

حيث اتهم الرئيس التركي أردوغان المضاربين على العملة باستهداف الاقتصاد التركي (7/12/2016). وأكد رئيس الوزراء التركي قوة اقتصاد البلاد وقال إن حكومته اتخذت الإجراءات اللازمة "من أجل التصدي للهجوم الذي يستهدف الاقتصاد التركي" (5/12/2016). وأعلن رئيس غرفة إسطنبول التجارية، إبراهيم جاغلار، أن عام 2017 سيكون عام التعبئة الاقتصادية، ووجّه نداء لرجال الأعمال الأتراك قائلاً: "تعالوا لنعيق المؤامرات التي تريد اغتيال اقتصادنا" (22/12/2016). وقال نائب رئيس الوزراء التركي، نور الدين جانيكلي، إن تقييم "مؤسسة موديز الدولية للتصنيف الائتماني" للبنوك التركية غير موضوعي ويكاد يكون بمثابة هجوم سافر" (10/1/2017). وأكد وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي أن البنك المركزي التركي يملك القدرة على مجابهة حملة المضاربة التي تتعرض لها العملة التركية (13/1/2017)، وذكر الوزير أيضاً أن تركيا ستتقدم بشكوى لمنظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة، لأنها فتحت تحقيقاً حول ادعاءات قيام قطاع الفولاذ التركي بالإغراق التجاري في الأسواق الأمريكية، كما فرضت رسوماً جمركية إضافية على الفولاذ التركي المستورَد (الإغراق هو بيع المنتج في البلد المستورِد بأقل من سعره في البلد المصدِّر).

-3-

حسب نظرية القتل الاقتصادي التي أوضحها بيركنز في كتابه فإن تركيا ستتعرض لمحاولات منوعة لاغتيالها ولن يتقصر استهدافها على المحور الاقتصادي، ويبدو أن هذا هو ما يحصل بالفعل. فعلى المحور الأمني تعرضت لهجمات متكررة خلال السنة الأخيرة، بعضها على أيدي الانفصاليين الأكراد وأكثره قامت به داعش التي باتت تستهدف تركيا أكثر من أي بلد آخر في الدنيا. وقد ذكر مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، سونر جاغابتاي، في مقالة نشرها المعهد عقب الهجوم الإرهابي الأخير في إسطنبول (1/1/2017) أنه أحصى 33 هجوماً إرهابياً كبيراً عانت منها تركيا منذ صيف عام 2015 وأسفرت عن مقتل أكثر من 730 شخصاً.

وعلى المحور العسكري بُذلت محاولات حثيثة لدفع تركيا إلى الحرب، ابتداء بقصف الأراضي التركية عبر الحدود وإسقاط الطائرة التركية في البحر عام 2012 وانتهاء بإسقاط الطائرة الروسية أواخر عام 2015، وحينما بلغ التوتر بين روسيا وتركيا ذروته بعد تلك الحادثة أصرّت أمريكا على سحب بطاريات صواريخ باتريوت التي كانت توفر لتركيا حماية من الصواريخ البالستية. هذا فضلاً عن الدعم العسكري واللوجستي غير المحدود الذي تقدمه أمريكا لأعداء تركيا التقليديين، الأكراد الانفصاليين.

وأخيراً بلغ استهداف تركيا ذروتَه مع المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز الماضي، التي كان من أهم أركانها اغتيال أردوغان نفسه، وقد نجا بأعجوبة -بقدر الله- حينما غادر فندقه قبل وصول فرقة الاغتيال بنحو ربع ساعة لا غير. وبذلك يكون خصوم تركيا قد جربوا الوسائل كلها، التخريب والفوضى والانقلاب والاغتيال والحرب الاقتصادية، ولا يبدو أنهم سيكفّون عن تكرار المحاولة مرة أخرى ومرات، فإنهم لا يملّون ولا يكلّون ولا ييأسون.

-4-

أظهر الانقلاب الفاشل حجم العداء العالمي للدولة التركية، فقد وقف العالم الغربي كله ضدها ودعم الانقلاب سراً وتمنى نجاحه جهراً، وكذلك صنعت بعض الدول العربية الوظيفية. والدواعش يرون تركيا عدواً واجب القتال ويقدمون قتالها على قتال أمريكا وروسيا وإيران والنظام، أما غلاة الأمة (وفيهم أتباع القاعدة في سوريا وفي كل مكان) فيرون أن الحكومة التركية علمانية كافرة وأن الجيش التركي طائفةُ ردّةٍ وكفر، فيدعون إلى المفاصلة مع تركيا والتخلي عنها في معركتها مع داعش التي يرونها أقربَ إليهم وأَولى بالموالاة!

أما بقيّة المسلمين، مئات الملايين من المسلمين، وأنا منهم وأرجو أن يكون قراء المقالة منهم أيضاً، فيرون أن تركيا هي أصدق حليف للشعوب المقهورة المستضعَفة، وأن نصرتها واجبة على المسلمين جميعاً. فهل يكفي أن نتمنى لها الخير ونخصّها بالدعاء؟

إن الدعاء واجب في كل حال، لكن الاقتصار عليه صنعة العاجزين. ألا نستطيع أن نصنع شيئاً غيره؟ بلى، نستطيع أن نصنع الكثير. إن ملايين المسلمين يسافرون إلى دول الغرب في كل عام فينفقون مليارات الدولارات، دول الغرب التي تُذلّهم حتى تمنحهم تأشيرات الدخول ثم تستغلهم بأغلى الأسعار، فلماذا لا يغيرون وجهتهم إلى تركيا ذات التاريخ العريق والطبيعة الساحرة؟ ومئات الآلاف من التجار المسلمين يشترون السلع الأوربية والأمريكية فينفقون عشرات المليارات من الدولارات كل عام. أليس في البضائع التركية الجيدة الرخيصة بديل ممتاز يغنيهم عن كثير من المنتجات الغربية الغالية؟

-5-

سيقول كثيرون: لماذا نساعد تركيا ولماذا نهتم بها أو نشعر أننا مدينون لها بأي دَين؟ إنها تسعى إلى مصالحها وتقدّمها على مصلحة سوريا والثورة.

وهذا صحيح قطعاً، إلا أن في تصويره بلهجة الطعن والتخوين قدراً كبيراً من البلاهة والتضليل. بالطبع ينبغي أن تقدّم تركيا مصلحتها على مصلحة غيرها، ولو لم تفعل لكانت خائنة لنفسها ولشعبها. وهل رفعت تركيا في أي يوم لافتة فوق معابرها الحدودية ومطاراتها وموانئها تقول: مرحباً بكم في "منظمة تركيا الخيرية"؟

على أن الآلاف من المطّلعين الثقات يشهدون أن تركيا قدمت وحدها للثورة السورية وللشعب السوري ما لم تقدمه دول الأرض مجتمعة، وأنها ما تزال حريصة على سوريا والسوريين كما كانت من أول يوم، ويشهد سجلّ خمس سنين أن الثورة تَقوَى بقوة تركيا وتضعف بضعفها. وفي الحقيقة فإن إضعاف تركيا هو إضعافٌ للثورة، فلا يحبّه ولا يسعى إليه إلا خائن أو جاهل.

أما رعايتها لمصلحتها فإنه حق وضرورة، فإن لم تفعل لن تنجح في رعاية مصالح غيرها، لأنها ستضعف فتفقد القدرة على مساعدة نفسها ومساعدة الآخرين. كل من سافر في طائرة ذات يوم يتذكر تنبيهات الأمان والسلامة: "في حالة نقص الهواء في حجرة الطائرة ستتدلى كمامات للتنفس فوق الرؤوس. إذا كان معك طفل صغير لا تبدأ به، ضع الكمامة على وجهك أولاً وتنفس بانتظام ثم ساعد ولدك الصغير". لماذا؟ لأنك لو لم تساعد نفسك أولاً فلن تستطيع أن تساعد غيرك، فإن العاجز الضعيف لا خير فيه لنفسه ولا لغيره من الناس. إنه قانون صحيح في حالة الفرد، وهو قانون صحيح في حالة الدول والجماعات.

-6-

إن دعوة الغُلاة إلى تكفير تركيا ومعاداتها جريمةٌ إنسانية قبل أن تكون جريمة شرعية، فهي تقوم اليوم بما قامت به الحبشة يوم الاستضعاف الأول (على ما بينهما من فرق، فتركيا دولة مسلمة يَدين أهلها بالإسلام، وتلك لم تكن كذلك، فكان النجاشي وحدَه وقليلٌ من قومه على الإسلام، ولم يُظهره ولا حكمَ به خوفاً من قومه، على ما حقّقه ابن تيميّة وغيره من العلماء) فهل تتخيلون أيَّ جريمة في حق المسلمين المهاجرين المستضعَفين كان سيرتكبها جَهَلةٌ يَدْعون إلى إضعاف دولة النجاشي وإسقاطها لأنها لم تحكم بالإسلام كما يزعمون؟!

لقد أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة ملاذاً للخائفين والمستضعَفين من المسلمين جميعاً، ويكفي أن ننظر إلى ملايين السوريين والفلسطينيين والعراقيين والمصريين الذين يقيمون فيها ويتمتعون بالأمان. سوف يبقى هؤلاء جميعاً في خير وأمان ما بقيت تركيا نفسها في خير وأمان.

كدت أقول: هذا أوان رَدّ الجميل. لكن الأمر أكبر من ذلك، إنه ليس رداً لدَين قديم فحسب، بل هو أيضاً استثمار لمشروع ناجح، فإن كل شجرة خير نزرعها في تركيا في هذه الأيام سنشارك في قطف ثمرها في قادم الأيام.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس