د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

عودة التوتر من جديد للعلاقات التركية الأوروبية، لا يمكن إيضاحه وحصره فقط بسبب منع الوزراء الأتراك من المشاركة بمهرجانات خطابية لحشد أصوات التأييد للاستفتاء الدستوري المزمع عقده في السادس عشر من نيسان/ أبريل القادم. خلفيات تاريخية، ودينية عقائدية، واقتصادية وسياسية، وأزمة داخلية وازدواجية الغرب التي يعيشها، كلها عوامل تقف وراء هذا التوتر المتجذر المتجدد والمزمن بين دولة إسلامية تجاور دول غربية لها تاريخ استعماري وذاكرتها التاريخية مشحونة بالسلبيات ولا تكن لتركيا الود والخير.

تركيا الحديثة ومنذ العام 1923 حددت وجهتها نحو الغرب بقيادتها الكمالية العلمانية الجديدة، لكن هذه القيادات السياسية والعسكرية المتعاقبة – باستثناء فترات متقطعة في عهدي مندريس وأوزال – لم تعمل بجدية للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، مكتفيةً بالشعارت، التي صورت للمواطن التركي أن مكانه بين الدول الغربية، وبل وعملت على إبعاد تركيا عن محيطها الإسلامي الشرقي. لأن هذه الأحزاب كانت تعيش أزمة داخلية، فهي تريد اللحاق بالغرب ولكنها تخشى ذلك، وتخاف من عواقب الإصلاحات المطلوبة، وتدرك أن التغييرات الدستورية والقانونية، ستفقدها كثيرا من المزايا، وربما السلطة أيضًا، في حال فسح المجال أمام أبناء الأناضول لممارسة حقوقهم بحرية في ظل قوانين عادلة. فكانت كحال حكومات الدول العربية التي تعيش بتمجيد شعارات المقامة والتصدي ومحاربة التخلف والاستبداد بينما تمارس نقيضه على أرض الواقع.

وصول العدالة والتنمية الذي ولد من رحم المعاناة والمظلومية للحكم بتركياعام 2002 وقبوله هذا التحدي بتغيير القوانيين التي تعيق دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، قلب الموازين على الغرب وأوقعهم في أزمة وحرج وحيرة.

برأيي  هذا التحدي والجدية بتغيير الدستور وإصلاح القوانين وخاصة في السنيين الأولى من حكم العدالة والتنمية، هو السبب الرئيسي وراء هذا التوتر بين الغرب وتركيا.

وهذا يقودنا للسبب الثاني والأزمة الأخلاقية التي يعيشها الغرب مع نفسه وقيمه التي ينادي بها، وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. أزمة تعيشها أوروبا قاطبة وأمريكا صاحبة تمثال الحرية وحقوق الإنسان.

التجربة الديمقراطية في بلد مسلم مجاور لأوروبا، كان الأولى بالدول الغربية أن ترعاها وتحميها، لتكون نموذجا يحتذى به في بقية الدول العربية والاسلامية، لكن نرى العكس من ذلك، تعايش وتصالح مع قادة الانقلابات العسكرية والأنظمة الديكتاتورية ومعاداة ومحاربة لتركيا التي اختارت النظام الديمقراطي والتحاكم للشعب من خلال صناديق الاقتراع. وهذا ما أوقع الغرب بأزمة أخلاقية وكشف عن وجهه الحقيقي وسقطت ورقة التوت كما رأيناها أمام المحنة السورية وقبلها شقيقتها الفلسطينية.

العامل الاقتصادي ربما هو السبب المباشر الثالث أيضا لهذه التأزمات المتكررة، فتركيا اليوم ورغم كل العوامل السلبية المحيطة بها، وخلافاتها مع روسيا وإيران، وما يجري من حرب ودمار في سوريا والعراق، لكنها تقوم بمشاريع كبيرة، وبوتيرة متسارعة، وتحقق إنجازات تنافس وتضارب على كثير من هذه الدول. مثال على ذلك مطار إسطنبول الثالث والنجاح الباهر لشركة الخطوط الجوية التركية تشكل عوامل انزعاج وامتعاض لألمانية ومطاراتها.

صحيح أن الاقتصاد التركي مرتبط بشكل كبير مع الدول الغربية وليس العربية أو غيرها، وخاصة الاستثمارت الغربية التي تزيد حصتها عن 65% من حجم الاستثمارات الأجنبية بتركيا، لكن الفرق هنا أن يكون اقتصاد تركيا منافسًا وندًا وليس تابعًا مستهلكًا.

العامل الرابع هو نتيجة حتمية تراكمية لهذه العوامل السابقة، وهو التغير النفسي في شخصية القيادة التركية الجديدة، التي استعادت الثقة بنفسها سياسيا واقتصاديا وشعبيا، والتغير الفكري للمواطن التركي ونظرته للمواقف الأوروبية، ووصوله للحقيقة التي لم تعد تحتاج لبرهان، حقيقة الغرب وعدم تقبله له. اليوم الاستطلاعات تشير إلى أن نسبة عالية – وعالية جدًا - من الشباب التركي لم يعد يثق بالغرب، ولم يعد حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي يطربه، ويعرف أيضًا لماذا لم ولن يقبله هذا الاتحاد الأوروبي.

ناهيك عن وضع الأخير المترهل والمتهاوي، بعد انسحاب بريطانيا منه وهي أهم ركائزه، ومستقبله المجهول، وهو الاتحاد الذي كان مضرب المثل للجميع  في السنيين الأخيرة.

اليوم كثير من الدول الأوروبية، وخاصة القوية اقتصاديًا منها، تعاني من خفوت لأدورها الاقليمية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط، في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وعودة الدب الروسي بوحشيته وقواعده وخلافه وتحديه للغرب. بينما نرى تركيا تلعب دورًا أساسيًا وهامًا ومحوريًا لا يمكن تجاوزه، رغم عدم الترحيب بهذا الدور من قبل اللاعبين الكبار، ولا حتى من إيران التي تلعب على هذه الخلافات والتوترات وتحاول الاستفادة منها. هذا الدور التركي الجديد عاملًا خامسًا أيضًا وراء دوافع الدول الغربية التي تدعم حزب العمال الكردستاني، لتقسيم تركيا وإضعاف دورها الإقليمي الذي بدأ يشكل عائقًا أمام تنفيذ بعض السناريوهات في هذه المنطقة.

موقف الدول الغربية المخيب للآمال خلال الانقلاب العسكري الفاشل بتموز/ يوليو الماضي، رفع من شدة حاسسية الأتراك، ساسة ومواطنين، وكسر حاجز الود والمجاملة، وعمق نظرية التآمر، وزرع الشك والحذر بين الطرفين مما ينذر بمزيد من التأزمات بالمستقبل القريب والبعيد.

تنامي اليمين المتطرف بالغرب، وارتفاع الأصوات المعادية للأجانب والإسلاموفوبيا، جعل كثير من الأحزاب الحاكمة من اليمين الوسط واليسار أيضًا تسعى للاقتراب من هذه الأصوات ومحاولة كسبها، وهذا مؤشر مخيف وخطر يهدد أوروبا قبل غيرها في حال لم تسعى هذه الأحزاب لفرملة هذا الشعور السلبي وإعادة البوصلة لمكانها الصحيح من جديد...

الدول الأوروبية ولأول مرة أقحمت نفسها وبشكل مباشر في حملة الاستفتاء الدستوري الذي حسمت تركيا نتائجه تقريبا، وربما ساعد هذا التوتر لتسهيل هذا الحسم، ودفع الأصوات المترددة وغير المكترثة، للتصويت لصالح الاستفتاء نكاية بتحدي الغرب وتدخله المباشر...

العدالة والتنمية لن يتخلى عن استخدام هذا التوتر وتسخيره لصالحه طول حملته الدعائية، وستهدأ الامور بطبيعة الحال بعد الاستفتاء وخاصة في حال تم قبول هذه الحزمة الدستورية.

لكن العامل الأساسي الذي سيحسم حدة هذا التوتر واستمراره من توقفه هو نتائج الانتخابات في أوروبا العجوز في الأشهر القليلة القادمة...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس