جلال سلمي - خاص ترك برس

كثيرة هي المخاطر التي باتت تُحيط بتركيا. فبدءًا بسوريا، مرورًا بالعراق، وصولًا إلى البحر المتوسط، تشهد تركيا تحديات أمنية وسياسية من قبل دول ومنظمات جهادية. وفي ضوء ذلك، ما هي العناصر التي تسبب المخاطر التي تواجهها تركيا، وما هي الخيارات الممكنة لتجاوزها هذه المخاطر؟

تصارع تركيا اليوم على صعيد الجبهة الداخلية تغلغل جماعة غولن داخل أركان دولتها، فما تكاد الحكومة أن تُعلن أنها أضحت على شفا القضاء على الأنفاس الأخيرة لعناصر الجماعة المتغلغلين داخل أركانها، حتى تكتشف فيما بعد وجود تغلغل جديد للجماعة في مؤسسة ما، فتعود لتعلن عن جولة جديدة من محاربة هذه الجماعة.

وعلى جانبٍ آخر، منذ ديسمبر/ كانون الأول 2015، وتركيا تحاول إنهاء وجود عناصر حزب العمال الكردستاني داخل مدنها بالكامل، ولكن دون جدوى، فمع مرور كل يوم تُظهر هذه العناصر عبر عمليات عسكرية أو فيديوهات مصورة أنها لا زالت فاعلة داخل القرى، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الاتجاه إلى "حرب المدن".

ولا يقف الأمر على ذلك، بل يشمل تهديد تنظيم الدولة "داعش" المستمر لأمنها الداخلي والخارجي، فضلًا عن تهديد حزب الاتحاد الديمقراطي الماضي بتأسيس فدرالية كردية بالقرب من الحدود التركية، بما يشكل خطرًا استراتيجيًا على المصلحة القومية التركية. ولا يمكن إغفال احتمال اشتعال حرب مقبلة بين "دمشق"، كعاصمة لسوريا بصرف النظر عن نوعية نظامها، والكيان الكردي، كما أن هناك احتمال بارز لاستمرار "الصراع المذهبي" طويلًا بين إيران والمملكة العربية السعودية.

إذا اعتقدنا أن تركيا دولة تريد فقط تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية مع التخلص بسرعة فائقة من مخاطر هذه الصراعات، حينئذ يمكننا طرح عدة تدابير قد تُثمر في تحقيق ما ترنو إليه. لعل أهم هذه التدابير هو تكثيف الجهود الدبلوماسية والاقتصادية، وعمل موازنة بين السياسيتين الناعمة والصلبة، فاستخدام الجيش لحماية مصلحتها القومية في منطقة سورية معينة لا يعني أنها باتت بغنى عن الإعلام أو الدعم الاقتصادي لقوى المعارضة السورية الموجودة في منطقة أخرى، بل ذلك يعني أنها باتت بحاجة إلى تحقيق عنصر موازنة أكبر بين هذا وذاك.

تدرك تركيا اليوم أنها بحاجة ماسة للتحالف مع مصر لمحاربة الإرهاب عسكريًا وفكريًا. خاصة فكريًا، فمصر الحاضن الرئيسي للإسلام المعتدل ممثلًا بالأزهر، والموجه الإعلامي الأول لسكان المنطقة ممثلةً باللهجة المصرية المقبولة من قبل الجميع، والتي تمثل لغة الإعلام والسينما العربية، إلا أن تركيا تبدو وكأنها ما زالت تأمل في تضييق الخناق على نظام الانقلاب بزعامة، عبد الفتاح السيسي، واستبداله بنظام جديد يكون محالفًا لها. لكن، لا يبدو أن تركيا قد تبقى تتعامل على هذا النحو من الخيال والمثالية مع الشأن المصري طويلًا، فالضرورات تفرض عليها التصرف بواقعية، وقد نشهد بعد محاولتها لتأسيس حلف اقتصادي وسياسي واجتماعي وإعلامي، ومن ثم أمني، بينها وبين دول الخليج تقارب طفيف مع مصر يسير رويدًا رويدًا نحو مرحلة التطبيع الكامل.

ربما تتمكن تركيا من خلال تأسيس منظومة دفاع جوي عبر التعاون مع روسيا، من الانتقال من دور الدولة الدفاعية إلى الدولة الهجومية على الصعيدين العسكري والاستخباراتي. وإلى جانب هذا التقارب من روسيا، في حال أبقت تركيا على علاقاتها متزنة مع القطب الغربي، قد يكفل لها التقارب من روسيا زيادة يقينها بحجم المخاطر الاستراتيجية التي قد تخطط لها الدول العظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، فالتعاون المتزن بين القطبين يسهل لها كشف الأوراق، ويهوّن عليها اتخاذ الإجراءات الأمنية المضادة للمخاطر المتوقعة. وفي تلك النقطة، لا بد لتركيا من الخروج من نطاق "المسار الوضعي" ـ أي المسار الأحادي للسياسة الخارجية التركية التي سارت على نهج التحالف مع القطب الغربي ـ والانتقال إلى نطاق "مسار التحول الجذري" المنقلب على أحادية المسار.

وفي ذلك السياق، يبدو أن من الصواب ابتعاد تركيا عن التصعيدات الإعلامية التي تقوم بها ضد بعض الدول، كإسرائيل وإيران وأحيانًا بعض الدول الأوروبية، فهذا التصعيد الذي ترغب تركيا من خلاله تحقيق بعض  المكاسب، ينقلب ضدها أحيانًا.

إن الدعم التركي للمكلومين أمرٌ لا بد منه، ولكن هل تصبح نتائجه أكثر إيجابيةً عندما يتم عبر الدعم الميداني الخفي، والمساندة الدبلوماسية في المحافل الدولية أم عبر التنديد الإعلامي الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع لا للمكلومين ولا لنفسها؟

من ناحية عسكرية دفاعية، يمكن الاستعانة برؤية الخبير الاستراتيجي التركي "إسماعيل حقي باكين"، العميد المتقاعد ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق، حيث يرسم، في مقاله "مخاطر وحلول" المنشور على الجزيرة ترك، الخطة العسكرية الدفاعية الاستراتيجية لتركيا بالنقاط التالية:

 ـ إعادة هيكلة الجيش التركي وفقًا للخبرات العسكرية.

ـ بناء قوات عسكرية خاصة مؤهلة للتدخل عسكريًا في مناطق النزاع بشكلٍ سريعٍ ومُجدٍ.

ـ إبقاء القوات الخاصة في حالة تدريب دائمة حتى يحافظوا على قدراتهم العسكرية.

ـ تزويد الاستخبارات العسكرية والوطنية بأحدث أنواع الأجهزة التكنولوجية، خاصة الأقمار الصناعية الحديثة.

ـ تأسيس وحدة الدفاع السيبارية.

ـ تأسيس منظومة دفاع حديثة يتم إدارتها من قبل القوات الدولية.

ـ تسريع عملية بناء المفاعل النووي.

ـ تطوير القدرات العسكرية للغواصات العسكرية، وجعلها قادرة على توجيه ضربات لأهداف برية وجوية.

في الختام، تنم هذه المقاربة السياسية والعسكرية عن محاولة لاستقراء السياسات الواقعية المحتمل اتباعها من قبل تركيا في المستقبل على الصعيدين القريب والبعيد. وارتكز في ذلك على المؤشرات العسكرية والدبلوماسية الجديدة التي طرأت على السياسة التركية مؤخرًا، والتي قد تستمر في الظهور حتى تشمل بعض النقاط المذكورة أعلاه.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس