د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

الحرب الإعلامية سواء في الماضي أو في الحاضر من أخطر الحروب وأكثرها تأثيرًا في النفوس والعقول. فهي قادرة على قلب الحقائق وتزييف الوقائع وصناعة قناعات بعيدة تماماً عن الواقع. ولقد رأينا اليوم كيف يكون بوسع الحملات الإعلامية الشّرسة أن تشحن النّفوس بالغضب وتزجّ بالمجتمعات في صراعات عنيفة، بهدف خدمة أغراض سياسية محدّدة يستفيد منها أناس متنفّذون سياسيا واقتصاديّا. وكثيراً ما يتم تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية فيصبح الصّديق عدوّا والعدوّ صديقا، والخيرّ شريرًا والشّرير خيّرا. وهذا تماماً ما حدث مع السّلطان عبد الحميد الثاني عندما رُسمت الخطط للإطاحة به والانقلاب عليه غير، أنّه بدهائه السّياسي استطاع أن يمدّ في عمر الدّولة العثمانية نحو ٣٠ عاما، ويُحبط مؤامرات كثيرة كانت ترسم مُخططاتها في الداخل والخارج. وقد أثارت سياسته جدلاً واسعًا، ووُصف "بالسّلطان الأحمر" و"السّلطان المستبد". فمن أطلق عليه هذه الأوصاف وإلى أيّ مدى تنطبق عليه؟

كان المؤرخ الفرنسي وعضو الأكاديمية الفرنسية ألبرت واندال أول من أطلق وصف Le Sultan  rouge أي "السّلطان الأحمر" على عبد الحميد الثاني، ثم تلقّفه الاتحاديون ونشروه بهدف الإساءة للسّلطان والتشنيع عليه. ثم انتقل هذا الوصف في العهد الجمهوري إلى المناهج الدّراسية، ولفترات طويلة كان الطلاب في المدارس ينظرون بازدراء شديد إلى حقبة السلطان عبد الحميد الثّاني ويعتبرونها نقطة سوداء في تاريخ الأمة التركية، وذلك بسبب ما تلقوه من معلومات مغلوطة عن تاريخهم ارتبطت بتوجهات سياسية وفكرية وإيديولوجية معينة. وبعد أن خف الضّغط على الحريات في البلاد بدأت الحقائق تتكشف شيئا فشيئا، وبدأت الأوساط الفكرية في تركيا تصحّح مدوّنتها التّاريخية وتنظر إلى التّاريخ التركي بطريقة أكثر علمية وأكثر موضوعية.

إنّ أنصار الاتّحاد والترقي المعارضين لعبد الحميد هم الذين بالغوا في وصف حكم السّلطان عبد الحميد بالاستبداد. وقد اضطر السّلطان عبد الحميد لاعتبارات محلية ودولية في عصره لاتخاذ مجموعة من الإجراءات لإنقاذ الدّولة العثمانية من السقوط والتمزق. فما خصوصيات هذه الإدارة الفرديّة التي دامت ثلاثين عاما وشملت مناطق واسعة من العالم؟

أولا: ينبغي التأكيد على مسألة مهمة هنا، وهي أنه إذا سلمنا بوجود استبداد من قبل عبد الحميد الثاني ورجالات عهده فإنّ ذلك لا يمكن أن يُقارن بالنّظم الاستبدادية في العالم، أو الاستبداد الذي ميز عهد حكومة الاتحاد والترقي التي جاءت بعد عزل السلطان عن العرش. والاستبداد بالمفهوم الغربي هو أن يجمع فرد السلطة في يديه أو تستأثر مجموعة بالسّلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية جميعًا. والواقع في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أنّ القضاء كان مستقلا ويعمل وفق أحكام الشّريعة الإسلامية.

أمّا بالنّسبة إلى السّلطة التّشريعية في عهده فقد مارستها المجالس المتخصّصة، وهذا الأسلوب رجحه عدد من الحقوقيين، واعتبروا أنّ هذه المجالس المشكّلة من رجال القانون المتخصصين أكثر كفاءة من مجلس المبعوثان (النواب) غير المؤهلين لصياغة التّشريعات اللازمة للبلاد في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الدّولة. وأما السلطة التنفيذية فقد ركّزها السّلطان عبد الحميد في يده عن طريق الهيمنة على مجلس الوزراء وجهاز الأمن الذي أسّسه لحماية الدولة خاصة. كما كانت له صلاحية اختيار الصّدر الأعظم، أي رئيس الوزراء، وعزله، وهذا ما دفع بعدد من علماء الإسلام في عصره إلى وصف ممارساته بالاستبداد. لكن ذلك ليس مبرّرًا للقول بأن عبد الحميد ألغى الحقوق والحرّيات بصورة مطلقة.

ثانيا: لم يعتمد السّلطان عبد الحميد القوة الغاشمة في إدارة أمور الدّولة، بينما خصومه من حزب الاتحاد والترقي الذين يصفونه بالاستبداد هم من سلكوا مسلك الاستبداد والقمع في تسيير شؤون الحكم والبلاد. والسلطان عبد الحميد استخدم الشّرطة العثمانية وجهاز الأمن لكنّه أبعد بشكل كامل الجيش عن السّياسة الداخلية، والأهم من كل ذلك أنّه لم يلجأ إلى معاقبة معارضيه بغير عقوبة النّفي والإبعاد.

ثالثا: لم يعتمد السّلطان عبد الحميد عقوبة الإعدام أو الاغتيال من أجل الحفاظ على حكمه، بل اكتفى بمعاقبة أشد المعارضين في حالات نادرة بحبس خفيف لدفع شرّهم، ثم تم تغيير أحكام الحبس السّياسي بالإقامة الجبرية.

رابعا: كان السلطان عبد الحميد يعتمد على ثقة الشعب به، ولذلك استطاع أن ينجز مشاريع ضخمة تكاد تكون في حكم المستحيل إذا نظرنا إليها في سياقها التّاريخي الذي ظهرت فيه، وكل ذلك بفضل الدعم المعنوي والمادي الذي وجده من الشعب العثماني في شتى أبقاع العالم. ويقرّ أعداؤه قبل أصدقائه بالدّهاء الخارق الذي يتميز به في تفعيل عنصر الخلافة والاتحاد الإسلامي. كما علم هؤلاء أنّ سقوطه يعني سقوط العالم الإسلامي من بعده، وقد برهنت الأحداث اللاحقة من بعده صدق سياسته وواقعيتها.

خامسا: أولى السّلطان عبد الحميد اهتماما خاصّا بالتّعليم والإعمار، حتى قال عنه معارضه حسين جاهد: لو كان الحكم يدُوم بالإعمار للَبِث عبد الحميد عمرَه في السّلطنة". وتضاعف معدل التّعلّم في مدة سلطنته خمسة أضعاف.

سادسا: كان رضى الشعب وثقته بأسلوب إدارة الدّولة وبمشروعية صاحب السلطة من أسباب بقائه في الحكم هذه المدة الطويلة وفشل الفعاليات المخالفة. وكان العرب، الذين يشكلّون العنصر الثاني بعد العنصر التركي يكنّون للسّلطان عبد الحميد حبّا خالصا، وكانوا يُعاملون معاملة خاصّة ويُسمّون "النجباء" تشرفاً بالرّسول عليه الصلاة والسلام. كما كان الأكراد يحبونه ويجلّونه، فهو الذي أنقذهم من ظلم الأرمن، وقد أفاض المؤرخ والكاتب التركي يلماز أوزتونا في هذا الموضوع في كتابه "تاريخ الدّولة العثمانية". 

سابعا: من المعلوم أنّ عبد الحميد لقي معارضة من كثير من المخالفين لسياسته وهم بالأساس:

1- الضباط من فئة الشباب الذين تعلموا في المعاهد الأوروبية، أو تخرّجوا من مدارس راقية مثل مدرسة "غلطه سراي"، ومن بين أشد المحرّضين عليه الشباب العائدون من روسيا وأبناء العائلات التي تعيش وفق النّمط الأوروبي.

2- الأوروبّيون الذين كرهوه لكونه تمكن من إحكام قبضته على الملايين من النّصارى ولسريان نفوذه على الملايين من المسلمين تحت راية الخلافة الإسلامية.

3- اليهود: الذين حقدوا عليه لامتناعه عن بيع فلسطين، وكذلك الأرمن الذين دفع خطرهم عن المسلمين.

4- الإنكليز والفرنسيون الذين نقموا عليه لأنه حرمهم من أطماع سكّة حديد بغداد وسكّة حديد الحجاز ومناطق النّفط.

فنلاحظ إذاً أنّ أنصار الدّين والوطن هم الذين انتصروا للسلطان عبد الحميد ووقفوا إلى جانيه بينما حقد عليه أعداؤهما. ولنعتبر اليوم بما يحصل تماماً في أيامنا. فنحن نلاحظ أنّ جميع هذه الفئات التي عارضت عبد الحميد وحاولت النيل منه ونعته بأشنع النعوت هي نفسها اليوم، بصيغ متطابقة أو قريبة جدّا تعمل على بث البلبلة في داخل تركيا، وتسعى إلى وقف قطار الحرية والتنمية، وتخريب الإنجازات التي تحققت في البلاد. وأكبر مخاوف هذه الأطراف أن تعود تركيا إلى مجدها القديم ويصبح القرار الكامل بيدها، وتصبح مستقلة بالكامل في جميع احتياجاتها الاقتصادية والعسكريّة، وتصبح مصالح هؤلاء مهدّدة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس