
سليمان سيفي أوغون - يني شفق
أخذ المشهد في الشرق الأوسط يتحول شيئًا فشيئًا ليشبه لعبة الميكادو اليابانية الشهيرة. ومَن يعرف هذه اللعبة يدرك أن مجموعة من العصي الملوّنة تُجمع في حزمة، ثم تُلقى عشوائيًا على الطاولة. ويتناوب اللاعبون على جمعها، بحيث يحاول كل لاعب أن يلتقط عصًا من دون أن يحرّك غيرها. فإذا تحركت عصا أخرى، تنتقل الفرصة إلى اللاعب التالي. وتمثل ألوان العصي نقاطًا مختلفة، وفي النهاية تُحسب النقاط وفقًا لما جمعه كل لاعب، والفائز هو من يحصد أكبر رصيد.
في الميكادو يكون البدء سهلًا، إذ يسهل جمع العصي التي تقع بعيدًا عن غيرها. لكن اللعبة تزداد صعوبة مع التقدم. فالمهارة تكمن في انتشال العصي المتراكبة دون أن تتحرك الأخرى.
وتأتي لحظات يصبح فيها ذلك مستحيلًا، فيغدو تفكيك الكومة أمرًا محتومًا، والمسألة هنا في حجم الخسارة. وفي هذه المرحلة، لم يعد أن تكون دورك ميزة كما في البداية؛ فقد تؤدي حركة غير محسوبة إلى تفكيك الكومة بطريقة يستفيد منها خصومك. وهكذا يكون التحدي: أن تُفكّك الكومة بأقل خسائر ممكنة أو بأقل قدر من المكاسب للآخرين.
بينما كنت أتابع كلمات القادة والنقاشات الجانبية في اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة التي تمحورت حول الحرب الإسرائيلية ـ الفلسطينية، ومجازر غزة، والأوضاع في سوريا والمنطقة عمومًا، راودتني فكرة الميكادو. نعم، لقد وصلنا إلى أصعب مراحل اللعبة. فمن هذه النقطة، لم يعد بمقدور أي طرف أن يأخذ من دون أن يعطي. المعادلة الآن محصورة بين أن تربح قليلًا وتخسر كثيرًا، أو أن تعطي قليلًا لتحصل على أكثر. فالمشهد الراهن لم يعد يحتمل أي نوع من المواقف القصوى.
لنتذكر ردود الفعل الغربية مباشرة بعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر. هرع القادة إلى تل أبيب، واحتضنوا قادة إسرائيل، وعلى رأسهم نتنياهو، كأنهم يتعاملون مع "الضحية"، ولم يترددوا في الظهور في صور تغمرها الدموع. فقد قتلت "حماس" عددًا من الإسرائيليين واحتجزت المئات رهائن. وبحسب المعايير الدولية، كان من حق إسرائيل الرد. لكن لم يخطر ببال أحد الحصار القاسي الذي فرضته إسرائيل لسنوات على غزة، ولا الإجراءات التي جعلت حياة أهلها جحيمًا يوميًا.
فهؤلاء ـ في نظر الغرب ـ مجرد "مسلمين متوحشين" و"مخلوقات شرقية". أما اليهود، فكما تعرضوا للاضطهاد في زمن هتلر، فإنهم الآن في موقع الضحية من جديد. وسرعان ما انضم إلى هذا الركب مثقفو الغرب ومشاهيره: ممثلون وكتّاب ومفكرون، كلهم سارعوا لإعلان دعمهم لإسرائيل.
ومع مرور الوقت، راحت عمليات الانتقام الإسرائيلية في غزة تتضاعف قسوة يومًا بعد يوم. وظلّ الرأي العام العالمي يتابع المشهد مشدوهًا لفترة طويلة، قبل أن يبدأ في التحرك تدريجيًا مع تزايد حجم القصف والضحايا المدنيين. وكانت الشرارة الأولى حملات طلاب الجامعات في الولايات المتحدة، والتي قُمعت لاحقًا لكنها أطلقت الفتيل.
ثم بدأت منظمات المجتمع المدني في أميركا وأوروبا بتنظيم مظاهرات جماهيرية واسعة. وفي تلك الأثناء، كان ترامب قد وصل إلى السلطة، وزادت واشنطن من دعمها لإسرائيل. لكن المعارضة الشعبية لترامب وسياساته الفاشية في الداخل راحت تتسع، وبدأت إسرائيل بدورها تنال نصيبها من هذا السخط.
وهكذا اكتسبت موجة "مناهضة ترامب" شيئًا فشيئًا طابعًا "مناهضًا للصهيونية". وحتى داخل حركة "ماغا" التي أوصلت ترامب إلى الحكم، بدأت التصدعات تظهر. فقد برزت مشاعر معادية للصهيونية، بل ولليهود أيضًا، في أوساط اليمين الأميركي المتطرف. تولى الإعلامي تاكر كارلسون تمثيل هذا الخطاب علنًا.
ومع مقتل تشارلي كيرك، أحد أبرز قادة الشباب اليميني المتطرف والداعم لترامب، ظهرت شبهات عديدة. وقد ألمح صديقه كارلسون إلى أن كيرك كان في الآونة الأخيرة يعبّر عن استيائه من نتنياهو ومن الدعم الأميركي لإسرائيل، بل أشار إلى احتمال وجود يد لإسرائيل في اغتياله. وهكذا أخذ التحالف بين "الماغا" الأصليين واليمين الإنجيلي المتطرف في التصدع، وبدأت التناقضات تخرج إلى العلن.
أما في العالم الكاثوليكي، فيمكن القول إن الموجة المناهضة للصهيونية ترسخت أكثر فأكثر. فقد وقفت دول كاثوليكية مثل إسبانيا وإيرلندا منذ البداية بحزم في مواجهة إسرائيل. وفي أميركا اللاتينية، حيث الكاثوليكية حاضرة بقوة، شهدنا تكتلًا مناهضًا للصهيونية باستثناءات قليلة. وقد أجبرت المجازر الإسرائيلية، التي طالت حتى كنيسة كاثوليكية، البابا نفسه على إبداء اعتراض خجول.
ومؤخرًا، رأينا ملايين الناس في نطاق جغرافي واسع يمتد من اليابان إلى المكسيك يخرجون في مظاهرات ضخمة للتنديد بإسرائيل. وانضمت "أسطول الصمود" إلى هذا المشهد بحملته المستمرة. أما المفكرون الذين سارعوا بعد 7 أكتوبر إلى إعلان دعمهم لإسرائيل مثل هابرماس وزيزيك، فقد لاذوا بالصمت. في المقابل، بات عدد كبير من الفنانين والمثقفين يعلنون إدانتهم لإسرائيل علنًا. وعلى المستوى الشعبي، صار السياح الإسرائيليون في الخارج يتعرضون للطرد من المحلات أو للإهانة. لم يبقَ أثر للتعاطف مع اليهود الذي كان سائدًا بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن نتنياهو ورفاقه لا يبدون أي نية للتراجع. بل إن انجراف الرأي العام العالمي ضد إسرائيل يجعل المجتمع الإسرائيلي أكثر تطرفًا. وأكثر من 70% من الإسرائيليين يعتقدون بضرورة إبادة جميع سكان غزة. وهذا الدعم هو ما يبقي نتنياهو وعصابته الفاشية متمسكين بالمواقف القصوى. لكن العالم لم يعد يتقبل هذا النهج. فالمشهد الدولي لم يعد قادرًا على تحمّل مثل هذا "المكسيملية".
نحن الآن في أصعب مراحل لعبة الميكادو. السؤال المطروح هو: كيف ستُفكك هذه الكومة المتشابكة؟ أجواء الاجتماع الأخير للأمم المتحدة، ومواقف الدول الأوروبية التي بدأت تعلن اعترافها بدولة فلسطين، تشير إلى ذلك. لكن الحذر مطلوب؛ فهناك من يسعى إلى تفكيك الكومة بحيث يخسر البعض كثيرًا مقابل أن يخسر الآخرون قليلًا.
أتابع هذه العملية عن كثب، ولي بعض التقديرات حولها، لكنني أفضّل أن أتركها لتكتمل، وسأعرضها في مقالي القادم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس