د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

تركيا اليوم مُستهدفة بدافعين كبيرين هما الحِقد والخوف. فالذّاكرة الغربيّة لم تنس أن استانبول التي سيطر عليها محمد الفاتح عام 1453م كانت في يوم من الأيام عاصمة لامبراطوريّتهم، وأن كنيسة آيا صوفيا الضخمة كانت تمثل رمزًا لوحدة المسيحيّين. ولذلك فالغرب لن يتوقف عن محاولاته للنّيل من تركيا وإضعافها سعيا لاستعادة ما فقدوه قبل قرون.

وأمّا الأنظمة المستبدة في العالم العربي فهي منزعجة وخائفة بشدّة من النّجاح الذي يحقّقه النموذج التّركي في التنمية والعدالة والدّيمقراطيّة، وأخشى ما تخشاه هذه الأنظمة أن تطالب الشّعوب العربية المقهورة بحقها في الحرية والديمقراطية والتنمية فتفقد هذه الأنظمة المستبدّة شرعيتها وتسقط، ولذلك يسعى المستبدون لوضع الخطط وإنفاق المال لإسقاط هذه التجربة بكل السّبل. وكانت المحاولة الانقلابية الفاشلة ليلة 15 يوليو 2016م تعبيرًا عن الحقد والخوف معًا من قبل أطراف غربيّة وعربيّة انكشف أمرها ولم تعد خافية.     

أهداف كبرى من وراء الانقلاب الفَاشل

- ضرب أية إمكانية لتجربة نهضويّة ناجحة لدى المسلمين، باعتبار أن ذلك يتعارض مع طموح القوى الاستعماريّة الكبرى في السّيطرة والتمدّد ومزيد من استغلال ثروات الشّعوب العربية والإسلامية.

- منع أية دولة إسلاميّة قويّة من الاستقلال بقرارها وتحديد مصيرها بنفسها.

- ضرب المراكز القويّة التي تدعم حق الشّعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال.

- عرقلة الطّموحات التركية في التخلص من تبعات معاهدة لوزان التي كبلت تركيا وحرمتها من استغلال ثرواتها مثل التّنقيب عن البترول والغاز لمدة 100 عام، ومنعتها من التحكم في المضائق وأهمها مضيق البوسفور. فمع حلول عام 2023 تصبح تركيا في حلّ من بنود تلك الاتفاقيّة، وهذا هو السرّ في السّعي الحثيث من قبل القوى الغربيّة لعمل كل ما يمكن لإفشال التجربة التركيّة وعرقلة مسيرة البلاد في التنمية والنهضة.

- عرقلة تركيا عن إنجاز مشاريعها العملاقة التي تقضّ مضاجع الدول الغربيّة مثل شق قناة استانبول الجديدة مع حول عام 2023م وفتح أكبر مطار في العالم والذي تبلغ طاقته الاستيعابية نحو 150 مليون مسافر في العام. وبالتالي تصبح استانبول مركزا عالميا للترنزيت والطيران، أضف إلى ذلك تميز الخطوط التركيّة وتوسعّها المستمر  وقدرتها التنافسية العالميّة.

- إسقاط النّظام الدّيمقراطي في تركيا وإعادة النّظام العسكري الذي ظل مسيطرًا على الحياة العامّة في تركيا لمدة عقود من الزّمن، وتسبب في صعوبات اقتصادية واجتماعية وتقزيم الدّور التركي إقليميّا ودوليّا.

- ضرب أحد مراكز دعم الثّورات العربية، فتركيا وقفت بقوة مع جميع الثورات العربية، وهي تؤوي الآن العديد من القيادات المعارضة من دول عربية كثيرة.

- قطع الدّعم السّياسي والمادّي والإعلامي والمعنوي عن هذه الثورات من أجل خنقها ووأدها.

- القضاء على النّموذج الدّيمقراطي والنّهضوي الوحيد في المنطقة والذي يمكن أن يمثل منارة للشّعوب العربيّة في سعيها لتحقيق الحرية والنهضة والديمقراطية.

- وجود نظام ديمقراطي في تركيا ونجاحه في القفز بتركيا من مصاف الدّول المتخلفة إلى مصاف الدّول المتقدّمة يمثل إزعاجًا شديدًا للأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية، فالشّعوب أصبحت أكثر وعيًا، وهي في طريقها للمطالبة بأن تعيش بحرية وكرامة، وبالتّالي لابدّ من قتل هذا النّموذج لتيئيس الشّعوب من أيّ تغيير.

- ترسيخ القناعة بأنّ التغيير عن طريق الدّيمقراطية وصناديق الاقتراع غير ممكن في المنطقة، وعلى الشّعوب العربية أن ترضى وتستكين بالواقع وترجع إلى حضيرة الطّاعة، وتكتفي بما يصلها من فتات الحاكم. 

كيف قوّت هذه الضّربة ظهر تركيا؟ 

أكبر تغيرّ في الوعي العام والشّعبي التّركي أنّ الحرّية والدّيمقراطية أصبحتا قناعة راسخة ومسألة لا يمكن التنازل عنها، وهذا ما دفع جميع شرائح المجتمع للتصدّي بقوة وبسالة للانقلابيّين، فالشّعب بوعيه وشجاعته هو الذي حمى الدّيمقراطية. وهكذا تحوّلت مهمة حماية الديمقراطية والنظام المدني من مهمة الدّولة إلى مهمة شعبيّة، وهذه سابقة مهمة جدّا تنبئ بتراجع خطر الانقلاب على الدّيمقراطية مستقبلاً وتعقّد مهمة أيّة عناصر انقلابية في الجيش، فالشّعب أصبح حارسًا لديمقراطيته.   

الشّعب التّركي عايش عدة انقلابات في البلاد، وكانت نتائجها وخيمة وكارثية على الدّيمقراطية والتنمية والحرّيات. ولذلك فهو غير مستعدّ لدعم أيّة عمليات انقلابية عسكريّة جديدة مهما كان الاختلاف مع الطبقة الحاكمة أو الحزب الذي يدير البلاد. وقد رأينا أثناء المحاولة الانقلابية نماذج من شباب عرّضوا حياتهم للخطر ووضعوا أرواحهم فداء للديمقراطية بالرغم من كونهم معارضين لحزب العدالة والتنمية الحاكم وللرئيس رجب طيب أردوغان. فالنظام المدني مهما كان فاسدًا أفضل في جميع الأحوال من نظام عسكريّ استبدادي لا يفرّق بين أحد.  

قبل وقوع المحاولة الانقلابية الفاشلة كانت الحكومة تدرك خطر عناصر فتح الله غولن المبثوثين في جميع مفاصل الدّولة، بيد أنّه لم يكن بوسعها اتخاذ إجراءات حاسمة تجاههم، وكانت يدها مغلولة إلى حدّ كبير، خصوصا وأنّ ثمّة جبهات كثيرة مفتوحة مثل الحرب في سوريا وصِراعها مع حزب العمّال الكردستاني، وكانت كذلك منشغلة بحل التّوتر مع روسيا. وجاءت المحاولة الفاشلة لتكشف للشّعب التركي مدى خطر جماعة فتح الله غولن على البلاد وخطرها على الدّيمقراطية. وعندما شنّت الحكومة حملة لا هوادة فيها ضد عناصر الجماعة وجدت تأييدًا شعبيّا واسعًا.

كانت الحكومة التّركية قبل وقوع المحاولة الانقلابية في ريب من قدرتها على حشد التأييد الضروري لتمرير التّعديلات الدّستورية التي تتيح تغيير نظام الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسيّ. وأصبح المناخ النّفسي الشّعبي في البلاد بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة مهيأ تمامًا لقبول الإصلاحات التي تقترحها الحكومة. وبالفعل تم إجراء الاستفتاء وحصل على الأغلبية المطلوبة.

التطوّر المهم الآخر الذي أعقب محاولة الانقلاب الفاشلة هو التّقارب الكبير بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة. فحزب الحركة القوميّة عبّر بشدة عن إدانته للمحاولة الانقلابيّة وأصبح أكثر قربًا في مواقفه من حزب العدالة والتنمية في كثير من القضايا بما في ذلك مسألة التعديلات الدستوريّة. وهذا ما قوّى موقف الحكومة أكثر  في مرحلة دقيقة وحاسمة وخطيرة.

مكنت المحاولة الانقلابية الفاشلة من كشف طبيعة بعض الأنظمة في تعاملها مع تركيا. فبعضها يتظاهر بالصّداقة والأخوة معها بينما يعمل في الخفاء مع الأعداء لتقويض أمن البلاد وتخريب الاستقرار فيها، بل والانقلاب على الحكومة ومحاولة إسقاطها. وهذا ينطبق على الدّول الغربيّة والعربية. وقد شاهدنا كيف احتفلت بعض وسائل الإعلام العربيّة بنجاح الانقلاب قبل أن يخيب أملها ويسفر الصّباح عن فشل ذريع للانقلابييّن. فتركيا بعد المحاولة الفاشلة سوف تبني علاقاتها وتحالفاتها بشكل مختلف وفقا لما كشفته ليلة الانقلاب، فقد تبين الصّديق من المنافق من العدو. وهذه حسنة أخرى من حسنات تلك اللّيلة التي لن تنساها الذّاكرة التركيّة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس