احسان الفقيه - خاص ترك برس

سَكْرة الموت يعاينها المرتحل، وسكْرة الحب ينبئك عنها العشاق، وسكْرة الخمر تعرفها في ترنح الماجنين، وأما سكْرة الشِقاق العربي فعجيبة الدهر، ومعضلة العبقريات.

كأن القوم قد غلّظوا الأيمان على أن يسلكوا من الاختلاف سُبلًا فجاجًا، كأنهم ذَهِلوا كما تَذْهلُ كل مرضعة عما أرضعت يوم القيامة.

أزماتنا الداخلية أنْستنا ذئاب العالم التي تحوم من حولنا، وصار المثل السائر (أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض)، لغة بائدة، وأضْحت مفردات الفُرقة والاختلاف عاجزة عن توصيف واقعنا، فاختلفنا حتى ملّنا الاختلاف، وتناحرنا إلى أن تُهْنا عن معالم الطريق.

 أزمة تطحن عظامنا، وأزمة تُنسينا أزمة، لا لأن الجراح تندمل، وإنما هو تفاوت الآلام التي تسخر منا في مسارها التصاعدي.

لم يعد هناك من سربٍ حتى نقول أنّ هناك من يُغرِّد خارجه، ولم يعد هناك حتى مِن قَطيع يسير فنخشى على الشاردة من وثْبة الذئب، إنما السير المنفرد  في كل اتجاه وأي اتجاه.

شرع الله لنا قِبْلة تُوحِّدنا، وكعبةً تُشابِك بين قلوبنا، فلمّا ضاقت صدورنا أقحمناها في نزاعاتنا السياسية.

الرواية القطرية تقول أنّ الجارة السعودية تقوم بتسييس الحَج للضغط على قطر لدفعها إلى قبول شروط دُول المقاطعة، ومِن ثَّم تقدَّمت بشكوى إلى اليونسكو، وجد فيها محترفو الوقيعة ومدمنو المؤامرات ذريعة لاتِّهام قطر بانتهاج ذات النهج الإيراني في السعي لتدويل الحرمين، اعتبره بعض المسؤولين بمثابة إعلان حرب على المملكة.

والرواية السعودية تعتبره في المقابل تسييسا قطريا لفريضة الحج، وأن اتهامات قطر لبلاد الحرمين بالتعسف بشأن الحجاج القطريين محض ادعاء ومحاولة لقلْب الطاولة على دول الحصار، وأنها نُسجت بعقلية إيرانية تركية.

ولست هنا بصدد الترجيح والانتصار لطرف ضد الآخر، فكلاهما عينان في الرأس، لكنها زفرة أسَى إزاء ما وصلت إليه أحوال الأشقاء في البيت الواحد.

كم خسر العالم الإسلامي جراء تلك الأزمة الخليجية، فأيُّ معنى في  تلك النُّفْرة لدول عربية اجتمعت على غير العادة، من أجل تطويق الشقيقة القطرية.

خسرنا عندما أصبحت هي القضية المركزية التي تُقسَّم فيها دول المنطقة على أساس الموقف من الأزمة، في تكريسٍ جديد لإعادة التَّموْضع والتَّخنْدق.

خسرنا عندما جاءت الأزمة وتوابعها على حساب الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يواجه الاحتلال الإسرائيلي بصدور عارية دفاعا عن أقصاه، فمِن ثمَّ يقوم العدو بالتصعيد وفرض السيادة على أولى القبلتين ومسْرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وكيف لا يفعل وقد آثرنا التطبيع مع العدو على الوفاق مع الصديق، فاطمأنت العقلية الصهيونية إلى أن العرب لن يُحركوا ساكنا، وأما الشعوب فإن تعاطفها واحتراقها من أجل الأقصى لا يقلق بال الحكام الذين أحكموا قبضتهم وهمّشوا شعوبهم.

خسرنا عندما أوْجدنا للصهاينة مساحة واسعة للترويج بأن العرب باتوا لا يرون في الكيان الإسرائيلي عدُوا لهم، وفي قبول هذه الأكذوبة على المستوى الإسلامي العربي ضربةٌ للقضية الفلسطينية في مقتل.

خسرنا عندما بدّدت تلك الأزمةُ الآمالَ حِيال تحالف عربي تركي قوي يصبُّ في صالح الأمة الإسلامية، فتركيا الجديدة تسعى قيادتها لإعادتها إلى أحضان العالم الإسلامي العربي، يكون مجالها الحيوي استنادا إلى الرصيد الحضاري الثقافي الجامع لهما.

أمَا وقد وقفت تركيا إلى جانب قطر لعدالة قضيتها، فقد أصبحت أمام معادلة صعبة، وتعرّضت علاقتها ببعض الدول الخليجية للتوتر أو على أقل تقدير للتسطيح، علما بأن إقامة تحالف عربي تركي يعني عقبة كؤودًا أمام الاستهداف الخارجي للأمة، وإعادة لتقييم القوى في المجتمع الدولي.

خسرنا عندما تهاوت الآمال التي كانت تُداعبنا في أن يكون هناك اتحاد خليجي، فقد كان البعض يراهن على دول مجلس التعاون الخليجي، باعتبارها أقرب النماذج المُمكنة لإقامة كيان مُوحّد، عبر اتحاد فيدرالي أو حتى كونفدرالي، هكذا كان يأمل البعض، ولكن جاءت الأزمة الخليجية الحالية لتقتل الآمال.

خسرنا عندما امتدَّ حريق الأزمة من الحكام والأنظمة إلى الشعوب التي كان يُعوّل على تلاحُمها، فأصبح التراشق بين المجتمعات الخليجية يسير على نسق مفزع غير مسبوق.

خسرنا عندما أوْجدت الأزمة لإيران فرصة سانحة في الاستقطاب والاصطياد في الماء العكر عندما خرَّبنا حصوننا بأيدينا، وهيَّأنا لها الأجواء لتنشيط أذْرُعها في الدول العربية والإسلامية للعبث بشأنها الداخلي.

ولْيرقُد سايكس و بيكو في سلام، بعد أن تركا للعرب أنموذجا للتفتيت يتم استنساخه بأيدي العرب أنفسهم، فليس هناك أكثر مدْعاة للسخرية من العمل على تقسيم المُقسّم وتفتيت المُفتّت ونحر المسفوح دمه على أرصفة العار منذ علا فُجارُها أبرارَها وسادَ القبيلةَ منافقُوها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس