إحسان الفقيه - الأناضول

لا شك أن توجهات الدراما التركية في الآونة الأخيرة للاقتراب من التاريخ العثماني، قد لفتت انتباه الجماهير العربية لتاريخ الأتراك وتراثهم، خاصة تلك الأعمال التي عرضت نشأة الدولة العثمانية منذ أن كانت عشيرة.

كانت البداية هي مسلسل "قيامة أرطغرل" والد المؤسس عثمان، ثم الأعمال التي تلته وتوضح كيف أسس عثمان بن أرطغرل هذا الكيان التاريخي.

ولأن الأعمال الفنية تخضع لمتطلبات الدراما التي قد تحدِث تغييرا في السياق التاريخي أو إضافة اضطرارية له، خاصة إذا كانت متعلقة بفترة أجملت فيها المصادر التاريخية دون تفصيل، فقد رأينا أن نسلط الضوء على نشأة الدولة العثمانية انطلاقا من كتب التاريخ، بهدف إثراء المعرفة الموضوعية بتاريخ الدولة العثمانية.

أمام المد المغولي في بدايات القرن الثالث عشر للميلاد، نزحت حوالي 70 ألف خيمة يسكنها نصف مليون من الأتراك، إلى الهجرة، منهم من استقر في شمال العراق وبعضهم في غرب إيران، واستقر آخرون في الأناضول من بينهم عشيرة القايي أحد فروع الأوغوز التركية، يقدر عددهم بحوالي أربعة آلاف تركي في هجرات متقطعة.

وهنا نشير إلى الخلاف التاريخي في تعيين القائد التاريخي لقبيلة القايي خلال هذه الهجرة في عهد السلاجقة.

من المشهور أن زعيم القايي كان سليمان شاه، وبه قال جمع من المؤرخين الذين عاصروا هذه الحقبة، إضافة إلى مؤرخين معاصرين أمثال المؤرخ أحمد جودت باشا، لكن رواية أخرى تقول إن اسمه كوندز آلب.

هذا الرأي يرجحه عدد من المؤرخين المعتبرين، أمثال المؤرخ أحمد آق كوندز في كتابه "الدولة العثمانية المجهولة"، والمؤرخ المصري المعروف محمد حرب في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة"، استنادا إلى مصادر عثمانية هامة مثل "دستور نامه" للمؤرخ أنور، وتاريخ محمد توفيق باشا، ويؤيده وجود مسكوك نقدي مكتوب عليه "عثمان بن أرطغرل بن كوندوز آلب".

تدخّل كوندوز آلب لترجيح كفة جيش السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد في إحدى معاركه، على خلاف في الروايات التركية بين كون قائد العشيرة هو كوندوز آلب أو ابنه أرطغرل بعد وفاة الوالد، والراجح هو الأول، إذ إن السلطان علاء الدين توفي عام 1237م، وفي المقابل توفي كوندوز آلب عام 1253م على أرجح الأقوال، ورجحه المؤرخ محمد حرب.

كانت النتيجة لهذا الدعم، أن السلطان السلجوقي أقطع عشيرة القايي منطقة حدودية مع الدولة البيزنطية.

تولى الغازي أرطغرل رئاسة العشيرة، وتوسع في المنطقة على حساب الأراضي البيزنطية، وكان بمثابة عامل الثغر أو الحدود التابع للدولة السلجوقية.

بلغ توسع أرطغرل في حدود 4800 كم تقريبا، وهو ما ورثه عنه ابنه عثمان، الذي تولى رئاسة الثغر بعد وفاة أبيه بمرسوم من السلطان السلجوقي، وكان عثمان في ذلك الوقت في الثالثة والعشرين من عمره.

بعد انفراط عقد الدولة السلجوقية، اجتمع أمراء الثغور على مبايعة عثمان على السلطة، ويعد هذا هو تاريخ تأسيس الدولة العثمانية التي نشأت كإمارة في حقبة عثمان عام 1300م.

ويشير المؤرخ محمد عبد اللطيف هريدي في كتابه "الحروب العثمانية الفارسية وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوروبا"، إلى عدة عوامل سرّعت بقيام الإمارة العثمانية.

من هذه العوامل: غلبة العنصر التركي المسلم في هذه المنطقة الحدودية مع الدولة البيزنطية، وضعف الإمارات التركية الأخرى وتناحرها، وضعف الدولة البيزنطية وانشغالها في الحروب مع الدولة البلقانية، إضافة إلى انقسام العالم الإسلامي إلى دويلات متناحرة، كما أن أهم هذه العوامل هي الأسس التي أرساها عثمان لبناء دولة إسلامية تركية قوية.

حرص عثمان على إضفاء الصبغة الإسلامية على الإمارة، ولعل الوصية التي تركها لولده أورخان ونقلها عنه المؤرخون تدل على هذا المنحى.

جاء في وصية عثمان: "عليك يا بني بالالتزام بالشرع الشريف والتشاور مع أربابه، في كل ما أنت مقدم عليه، وعليك بإكرام الناس وتقديرهم حق قدرهم، وتوقير العلماء منهم، فخير الناس أنفعهم للناس، وعليك بتعظيم أمر الله والرحمة بخلقه والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته".

وحرص أورخان الذي خلف أباه على الحكم، على تنفيذ وصايا والده، وجعل السكّة (العملة) تعبر عن إسلامية الدولة، فنقش عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، تحيط بها أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة.

اجتهد في أن يكون جيشه أداة حكم وحرب معًا، فقام بتعيين القضاة والمفتين يسيرون في ركابه ويستفتيهم، وظلت وظيفة "قاضي عسكر" التي أنشأها أورخان من المناصب المرموقة طيلة حكم العثمانيين.

سعى لتطبيق مبادئ العدل والسماحة التي أرساها الإسلام، لذا دخل عدد كبير من غير المسلمين في الإسلام في عهد أورخان، وخدموا في الجيوش العثمانية.

وهو ما كان يحرص عليه أبوه الغازي عثمان، الذي قال المستشرق الإنجليزي جيبونز في حقه: "سرعان ما كان أعداؤه يتحولون إلى أصدقاء، يخدمونه ويستمرئون خدمته، فقد اعتنق آل ميخائيل وآل ماركوزو الإسلام بعد طول صداقتهم مع عثمان، يأتمرون بأمر قادته وهم أصحاب الأمجاد العسكرية التي تفوق ما لعثمان نفسه، لقد كان الرجل غيورا على دينه بقدر ما كان متسامحا".

لقد جنى العثمانيون ثمار هذا التسامح، حيث أفشل ميخائيل محاولة الإمبراطور البيزنطي اغتيال عثمان، كما ظهر في فتح بورصة التي استعصت على أورخان بن عثمان، حيث سلمه أفرنوز مفاتيح قلعته التي تطل على بورصه، معلنًا إسلامه ودخوله تحت راية العثمانيين بمحض إرادته، فكان سببا في فتح العثمانيين لبورصه.

تابع العثمانيون تقوية دولتهم، حتى أصبحت إمبراطورية كبرى في العالم، أسقطت القسطنطينية معقل البيزنطيين، وتوغلت في أوروبا حتى وصلت جيوشها إلى النمسا في عهد السلطان سليمان القانوني.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس