سعيد الحاج - عربي 21

مما يميز حزب العدالة والتنمية في تركيا عدم تناقضه مع الرأي العام في البلاد والتناغم معه قدر الإمكان، لكن أيضا وفي المقابل يملك الرئيس التركي أردوغان مميزات كثيرة تجعله موجّها للرأي العام في كثير من القضايا، خصوصا وأن الثقافة السياسية في تركيا شرقية بامتياز بحيث يحظى الزعيم السياسي بتأييد كبير واتــّباع واضح.

وهكذا، أخذ أردوغان - ومن خلفه العدالة والتنمية - منذ 2002 على عاتقه بعض القضايا والمبادرات التي لم تتفق تماماً مع توجه أغلبية الشعب أو طيف كبير منه في حينها حتى أقنع بها أنصاره وقطاعات واسعة من الشعب، ومن بينها ملف عضوية الاتحاد الأوروبي وعملية السلام الداخلية مع الأكراد.

قبل أيام، قال الرئيس التركي خلال كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية أن فكرة "غدر" العرب بالأتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى "كذبة وُضعت في مناهجنا الدراسية عن قصد"، معتبرا أنه من الخطأ "اتهام كل العرب" بسبب "بعض الأخطاء" التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى.

كلام أردوغان مهم جدا في هذا السياق لأنه يواجه بروباغندا غرس لها عميقا في وجدان الشعب التركي على مدى عشرات السنين، بعد أن تأسست في فترة تأسيس الجمهورية التي امتازت بطغيان الشعور القومي والانكفاء على الذات، وبعد ما يقرب من قرن كامل من إدارة الظهر للمنطقة العربية التي تعتبر جزءا رئيسا من "الجغرافيا العثمانية" التي شاركت تركيا التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة والمصير.

ولأن هذا الادعاء/الكذبة بدأ مع تأسيس الدولة وحظي بدعم رسمي وترسخ في المناهج التعليمية والكتب المدرسية، فإن خطاب الرئيس التركي في هذا الإطار وبهذا الوضوح مهم جداً لإعادة الاعتبار للتاريخ وللعلاقات العربية - التركية على مدى مئات السنين. 

ولعله من البديهي أن جملة مثل هذه من الرئيس التركي أبلغ أثرا في مخيال شعبه من مئات الدراسات والوثائقيات والمؤتمرات العربية التي قد تحاول تصحيح الصورة النمطية الخاطئة عن العرب لدى الأتراك.

ويحسب لأردوغان هنا أنه كان بالغ الوضوح والصراحة والمباشَرة حين اعتبر الأمر كذبة، وأيضاً حين أكد أنها أقحمت في المناهج التعليمية بشكل مقصود.

لقد عانت تركيا من ادعاءات تاريخية تصدر عن خلفيات سياسية تفتقر للأدلة العلمية والمنهجية التأريخية، في مقدمتها ادعاءات إبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية عام 1915، وكانت دائما تدعو لعدم تسييس التاريخ ولبحث القضايا التاريخية من قبل الأكاديميين والمؤرخين وليس السياسيين. 

واليوم، تصبُّ كلمة الرئيس التركي في نفس المسار، إذ لا يعقل التسليم بادعاء خطير كهذا يمكنه تسميم العلاقات العربية - التركية في أي وقت، سيما وأنه فعلا يفتقر للأدلة والقرائن ويتسم بتعميم شديد يخالف المنهجية العلمية.

كما أن تصريح الرجل يأتي في سياق استثنائي ومهم بالنسبة للسياسة الخارجية التركية، التي تعاني من أزمات وتوترات مع محاورها الغربية أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بينما تنتهج مؤخرا سياسة الاتجاه شرقا من جهة والسعي للانخراط أكثر في قضايا المنطقة من جهة أخرى.

هذا الادعاء الكاذب يقابله ادعاء "الاستعمار التركي" للبلاد العربية وتقريبا لنفس السبب أي أخطاء بعض الأفراد أو الجهات أو حتى الدولة نفسها لكن في فترة تاريخية لها ظروفها وسياقاتها. يعمل الادعاءان في الظاهر باتجاهين متناقضين، لكنهما في الحقيقة يكملان بعضهما البعض ويلعبان دوراً سلبياً على صعيد العلاقات التركية - العربية.

إن تعاطف الشعب التركي الكبير مع القضية الفلسطينية لم يستطع وحده إلغاء الفكرة الخاطئة لديه حول بيع الفلسطينيين أراضيهم، كما أن انفتاح تركيا في عهد العدالة والتنمية على العالم العربي لم يتمكن من تهميش ادعاء خيانة العرب للأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، خصوصاً أن تجربة الحزب أعطت لتركيا الريادة في المنطقة واليد العليا في العلاقات.

إن تصريحات الرئيس التركي ثمينة جدا في هذا السياق، لكنها لا تكفي وحدها. من الأهمية بمكان أن يُبذل جهدٌ عربي مقابل يبني على هذه التصريحات وهذا التوجه من أردوغان، بحيث يواجه هذا الجهد أكذوبة "خيانة العرب" وأكذوبة "الاحتلال التركي" على حد سواء، وبأدوات أكاديمية وعلمية رصينة لها مصداقيتها. 

ولن تعدم أي إرادة عربية في هذا الاتجاه المصادر التاريخية والعلمية والوثائق المفيدة في هذا السياق، فشواهد قبور شهداء معركة تشاناق قلعة تزخر بالأسماء العربية، والأرشيف العثماني مليء بالوثائق التي تؤرخ لتلك الحقبة المهمة من تاريخ المنطقة. 

يستحق ادعاء مثل هذا له كل هذا الأثر في المخيال التركي تنظيم مؤتمرات أكاديمية عدة لدحضه بالأدلة العلمية والوثائق التاريخية، وإنتاج أعمال فنية وثقافية وأدبية مشتركة بين الجانبين العربي والتركي تخدم هذا الهدف، والتنسيق بين الجهات الرسمية من الطرفين للبناء مستقبلا على هذه المبادرة الطيبة.

إننا نعيش في منطقة تتغذى على المشاعر القومية والأيديولوجيا والتاريخ، بقسميهما الصحيح والخاطئ، ولذا فلا مناص من تصويب وتفنيد ما اعتراها من أوهام أو أكاذيب أو ادعاءات غير مثبتة، لأننا في نهاية المطاف سنبقى نتشارك نفس التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة بنسبة كبيرة، وفي الأغلب المستقبل والمصير.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس