عبد الله الشيخ ديب - خاص ترك برس  

مراكز الفكر هي فعلاً، نظرياً على الأقل، سلاح ذو وزن في حرب الأفكار المتفشية اليوم بين مختلف المفاهيم والتصورات في العالم، بل ويمكن القول إن "الأفكار هي التي تحكم العالم" بحسب تعبير اوغوست كومت .

تنشأ مراكز الأبحاث والدراسات عادة رداً على أزمات خطيرة، لم تستطع السلطة أو النخب الموجودة وحدها  حلها والتعاطي معها، لعدة أسباب موضوعية، كعدم التنبؤ المسبق بها، أو إدراك كل أبعادها وخلفياتها المعرفية وجذورها السياسية والاجتماعية .

مع الحرب العالمية الأولى نشأت مراكز للبحث في أسباب الحرب، وفي الحرب الثانية نشأت مراكز لاستكشاف إمكانات وضع حد للحروب، وجاءت بعض المراكز لتواكب تغيرات استراتيجية ضخمة كبروز الولايات المتحدة قوة عالمية عظمى بعد الحرب العالمية، أزمات حادة كالركود الاقتصادي وأزمة النفط في السبعينيات كانت دافعاً آخر لنشوء موجة جديدة من مراكز الأبحاث والدراسات، ونهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين كانت سبباً أيضاً لإنشاء مراكز تحليل السياسات والعلاقات الدولية والبحث في الفرص المترتبة على الوضع الجديد .

لم تكن الحالة السورية استثناء في ذلك، فمع انطلاقة الثورة السورية، وتطور الحراك فيها، بدأت بعض المراكز بإعادة الظهور وهي  تتبع في الغالب لمعارضين سوريين في الخارج، كانت مراكزهم شبه معطلة ولم تقدم أي جهد بحثي حقيقي، بل كانت أشبه بمراكز تعليق سياسي مخصصة للتذكير بالسلطة الأمنية في سورية وممارساتها، وترافق ذلك مع ظهور إعلامي لا يكاد يُذكر.

وتعود حالة الضعف التي كانت تعانيها تلك المؤسسات لعدة أسباب موضوعية أولها عدم إمكانية القيام بأبحاث في الداخل السوري بسبب القبضة الأمنية المشددة، وانغلاق المجال العام ككل في سورية "الأسد"، وقلة الباحثين السوريين المختصين في قضايا البحث الاجتماعي.

مع تطور الثورة السورية وتبلور واقع جديد على الأرض عبر تحرر بعض المناطق من سلطة الأسد، والتأثير الواضح لعدد من الدول في القضية السورية، وبروز عدد من الفاعلين الجدد داخل سورية، ظهرت تحديات كبيرة أمام جميع قوى الثورة السياسية والعسكرية والاجتماعية.

هذه التحديات لفتت نظر القوى الفاعلة إلى أهمية البحث عن حلول وأفكار، وهكذا بدأت مراكز أبحاث ودراسات سورية بالظهور والازدياد .

وبالفعل قدمت بعض هذه المراكز أبحاثاً أصيلة معتبرة، كما قدمت ترجمات مميزة لأبحاثٍ ودراسات غربية بقيت مغيبة عن السوريين ونقاشاتهم ، وجهودٍ لا يمكن إنكارها في تحليل السياسات، لكن الملفت للنظر أن أغلب هذه المراكز الجديدة تعمل اليوم كمنصة علاقات عامة، أكثر من كونها مراكز معنية بالبحث الأكاديمي وإطلاق الأفكار والحلول السياسية الجديدة، وقد يعود ذلك لثلاثة أسباب رئيسية: الأول هو طبيعة تمويل هذه المراكز، التي غالباً ما تكون ممولة من جهة واحدة، وهو ما يؤثر على عمل المركز، وعليه قد يكون من الجيد لهذه المراكز البحث عن طرق تمويل جديدة؛ إما عبر التعاقد، أو فتح باب التبرع، بل وأعتقد أن من واجب الائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة تخصيص ميزانية لدعم هذه المراكز .

السبب الثاني: أغلب هذه المراكز يقوم عليها شخصيات من خارج الحقل الأكاديمي، وليس لها خبرة أو تجربة في المجال البحثي، بل وربما لم يسبق لها أن نشرت أبحاثاً ودراسات، هذه المشكلة البنيوية قد يمكن التغلب عليها عبر اجتذاب باحثين وأكاديميين جيدين، وتخصيص جزء من ميزانية المركز لتدريب باحثين جدد .

السبب الثالث: إنشاء مراكز بهدف حجز حصة في السوق، دون إبداء أي اهتمام حقيقي برؤية ونشاط المركز والنتائج المنتظرة من إنشائه، وجود هذا النوع من المراكز مرتبط بالأسباب السابقة، ويعزز وجوده غياب إطار قانوني ينظم هذا هذا القطاع ، الحل هو المؤسسية والمزيد من الشفافية، عبر الكشف عن الجهات المانحة لهذا المشروع، وتوضيح برامجه البحثية، وهو ما يحسن شروط وجود هذه المراكز وعملها، فمجرد الوجود في السوق ليس كفيلاً بالاستمرارية، فالسوق يجب أن تكون له شروطه أيضاً.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس