إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

نظرا لأن التطورات التكنولوجية الجديدة تمكننا من خلق عوالم افتراضية وحقائق بديلة، فإننا نواجه على نحو متزايد مشكلة الهروب من الواقع والعيش في عالم خيالي. الصور على شاشات سريعة تحل محل الأشياء نفسها، إلى حد أنها تنفرنا من العالم الطبيعي وعالم الناس الحقيقي. نحن نحب صورنا على الشاشات أكثر مما نحب أنفسنا. ستأخذنا التطورات الجديدة في الذكاء الاصطناعي إلى عوالم مجهولة. فهل يمكننا بوصفنا بشرا أن نعيش بين هذه العالمين البديلين وأن نحافظ على إنسانيتنا؟

قد لا يكون خلق حقائق بديلة أمرا سيئا بالضرورة. وهذا ما يقدمه لنا الأدب بطرق إبداعية وثرية. إن الإشارة إلى عالم مثالي قد تساعدنا على إبقاء آمالنا ومعاييرنا عالية، ولكن هذا العالم المثالي نفسه يمكن أن يكون وسيلة وهمية للهروب من الواقع الذي يحدد هيئتنا البشرية ويجبرنا على تحمل المسؤولية عن أعمالنا. نحن نهرب من الواقع الذي نعيش فيه لأننا لم نعد قادرين على مقاومة ما خلقناه بأيدينا. إن استبدال العوالم الافتراضية، والآلات، والروبوتات واختراعات عالم الذكاء الاصطناعي بهذا الواقع ليست هي السبيل لإيجاد السلام والهدوء والسعادة والشعور بالرضا، بل إنه يطلق أنفسنا في طبقات متعددة من العوالم الخيالية.

في السنوات الأخيرة، استغلت الروايات والأفلام هذا الافتتان بإمكانيات الذكاء الاصطناعي وتخطي الحدود البشرية. إن ثلاثية The Matrix و"Ex Machina" و"Westworld" و"Black Mirror," و"I Robot" و"Blade Runner 2049" وغيرها ، تروي قصص بناء وقائع جديدة لها فرص للتحقق إلى جانب العواقب المدمرة. الفكرة المشتركة لهذه الأفلام هي: ماذا يُعرف الإنسانية في مواجهة التطورات التكنولوجية الجديدة والرغبة في الحصول على المزيد من كل شيء. ماذا يحدث عندما نتفوق على أنفسنا ونصبح أسرى إبداعاتنا الخاصة؟ ومثلما نعرف جيدا من قصة فرانكشتاين المتجددة دائما، فكيف نتعامل مع الوحوش التي نخلقها؟

يتناول فيلم "شبح في وعاء 2017" ( Ghost in the Shell) من إخراج روبرت ساندرز وبطولة سكارليت جوهانسون، مسألة ما يحدث عندما يستخدم الناس الآخرين كآلات لتحقيق مكاسبهم الشخصية ومصالح الشركات. الشخصية الرئيسية في الفيلم، الرائد موتوكو كوساناجي التي تلعب دورها سكارليت جوهانسون، هي شرطية نصف آلية تقاتل مجرمي العالم، وهي الأولى من نوعها فنصفها روح إنسان، أو شبح، مع تحسينات جديدة وجسم آلي، أي وعاء. وعندما تدرك أنها كذبت وتحولت إلى مجرد اختراع للذكاء الاصطناعي ضد إرادتها الخاصة، فإنها تبدأ في التشكيك في كل شيء.

وعلى الرغم من التبسيط في بعض الأحيان، فإن الفيلم يثير مسائل أخلاقية وفلسفية مهمة. ماذا يحدث عندما تبدأ الحكومات والشركات الكبرى في تغيير عقول الناس ونفوسهم لخدمة مصالحها؟ من له الحق في إعادة تصميم ذكريات الناس وعواطفهم حتى لا يتذكروا شيئا و يطيعوا الأوامر؟ إن من الخيانة لقيمنا الإنسانية الأساسية إجبار الناس على الاعتقاد بأن لديهم حياة أفضل وأكثر سعادة في عالم افتراضي مستقبلي أكثر تقدما بكثير من الواقع الحالي الذي يجدون فيه أنفسهم؛ لأنهم لن يكونوا أنفسهم ولكنهم سيكونون مجرد محاكاة مبرمجين وشبح مطور في جسد مثالي.

في فيلم "شبح في وعاء" تحدث بعض الأشياء المروعة في ديستوبيا المستقبل المرير، ولكننا لا يجب علينا أن نتطلع لرؤية الحقيقة المزعجة التي تحدث بالفعل. تسعى تكنولوجياتنا الحالية والشركات التي يحركها الربح التي تملكها إلى تغيير تصورات الناس ورغباتهم وأذواقهم بحيث يصبحون بلا شك خدما للرأسمالية الاستهلاكية، حيث يشعر البشر بالرضا عن أنفسهم بإنفاق المزيد، والرغبة في الحصول على المزيد، وبأن يصبحوا شيئا آخر غير أنفسهم. والأسوأ من ذلك أن معظم الناس على استعداد لدفع ثمن هذا الطريق الوهمي لوجود مثالي.

ويبدو أن هذا تتخلله رغبة عميقة في الهروب من واقعنا إلى عالم خيالي مهما كان الثمن. لماذا يريد الناس الهروب إلى عالم الخيال رغم علمهم التام أنه مجرد عالم خيال؟ مم نهرب؟ ماذا نفتقد في حياتنا إلى الحد الذي يدفعنا إلى اللجوء إلى العالمين الاصطناعي والافتراضي اللذين نعرف جيدا أنهما غير واقعيين وخياليين؟

لست متأكدا من أننا على استعداد لطرح هذه الأسئلة على أنفسنا بطريقة جادة وصادقة أم لا .وعندما نفعل ذلك، فإن سحر هذا الوهم الذاتي الممتع سوف يتبدد، وقد نواجه حقيقتنا البشرية ونحن ربما بإيجابياتها وسلبياتها، وبعدئذ قد ندرك أن ما يحدد إنسانيتنا لا يكمن في قدرتنا على خلق آلات أفضل منا، ولكن في التعامل مع عالم الطبيعة وغيرنا من البشر بفطنة ورعاية وحب. إن إنتاج النظم التدميرية الذاتية ليس أذكى وسيلة للانتفاع بالقدرات التي وهبنا الله.

وبدلا من خلق عوالم خيالية للهروب من الواقع، علينا أن نغير وضعنا العقلي والروحي حتى نتمكن من العيش في وئام مع واقعنا الخاص. ربما يمكننا أن نحاول تحسين واقعنا حتى لا نشعر بأننا مضطرون للهرب منه. وهذا يتطلب بحثا جادا لأولوياتنا الحديثة وإيجاد اتجاه جديد في حياتنا، اتجاه يقربنا من واقعنا الداخلي وإنسانيتنا المشتركة.

عن الكاتب

إبراهيم كالن

الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس