أحمد طلب الناصر - خاص ترك برس

"نحن، ببساطة شديدة، لا يسعنا نقل الحقيقة كاملة، ولا نزال نكابر ونجمّل الواقع، ظناً منّا بأن الأمور ستصبح أفضل في المستقبل، ولكن للأسف لا شيء مطمئن يلوح في الأفق"..

هذا ما قاله “مهنّد” الذي هرب من تركيا إلى ألمانيا قاصداً اللجوء منذ ما يقارب العامين والنصف، ولا يزال حتى اللحظة يقيم في “الكامب” رغم حصوله على الإقامة الألمانية.

معظم السوريين الذين ركبوا البحر باتجاه اليونان، أو دخلوا إليها برّاً، كانت وجهتهم الرئيسة الدولة الألمانية، عدا البعض الذين توجهوا نحو السويد وبقية الدول الاسكندنافية. وسبب رغبتهم بألمانيا يعود بالدرجة الأولى إلى إجراءاتها السريعة، كما كان يُظن، بعمليات لمّ الشمل، إضافة إلى راتب اللاجئ الذي يزيد شيئاً بسيطاً عن راتب بقية الدول.

وبعيداً عن تلك الدوافع، كان الدافع الرئيسي والأهم للسوريين هو الحصول على سبل العيش الحر الكريم الذي فقدوه في سوريا “الأسد” قبل اندلاع الثورة وبعده.

وحسب آخر إحصائية، فقد بلغ تعداد السوريين الواصلين إلى ألمانيا منذ قيام الثورة حتى اليوم حوالي 370 ألف مهاجر، ثلثاهم لا يزال يعيش ضمن “الكامبات”، أسراً وفرادا.

وخلافاً لما كان يحلم به غالبية السوريين اللاجئين في ألمانيا، كانت خيبات الأمل تحيط بهم من كل حدب وصوب..

الصدمة:

استطاع “حارث.ع”، ابن الـ 28 عاماً، تهريب زوجته وطفله منذ حوالي ثلاث سنوات ونصف، فقامت الأخيرة بلمّ شمله بمجرد حصولها على إقامة الثلاث سنوات. وصل إلى زوجته وابنه قادماً من مدينة أورفا التركية، ليسكن معهما داخل الكامب بمدينة “شتوتغارت”..

يقول حارث: “لا أستطيع وصف الحالة التي عانيتها بعد وصولي بيوم واحد إلى الكامب، أشخاص من كل الأعراق والأجناس يشاركوني الحمامات والممرات، شعرت بأني عبارة عن سجين داخل معسكر كبير للاعتقال، ناهيك عن الشجارات التي تحصل بشكل يومي إضافة إلى انتشار المخدرات بشكل لا يتصوره عقل، ودائماً ما تجد الشرطة تقتحم عليك الكامب لإجراء التفتيش”.

أما “أم عثمان”، وهي لاجئة سورية في ولاية “نورد راين” قدمت برفقة أطفالها الثلاثة، عثمان 11 سنة، صفوان 9 سنوات، وبيان 8 سنوات، فتصف مجيئها إلى ألمانيا بالـ “الكارثة التي ستظل نادمة عليها طيلة حياتها” وذلك بسبب الرعب المحيط بها جرّاء التهديد المباشر بسحب أبنائها منها في أية لحظة، فتقول: “في السنة الفائتة، وبعد انتقالي للسكن في منزل مستقل بعد الكامب، قام أحد أولادي بضرب أخته فغضبت منه وصرخت عليه وضربته فخرج يبكي عند المدخل، وبعد أقل من نصف ساعة كان البوليس قد حضر ليحقّق في الموضوع بعد أن اشتكى الجيران، وهم أصحاب البيت الذي استأجرته، فاضطررت للكذب أنا وابني عليهم، ثم قاموا بكتابة ضبطهم دون أعن أعرف ما كتبوا فيه. ووقَعوني على تعهد بعدم التعرض لابني..”

وتستطرد أم عثمان “منذ مدة بسيطة شهدت حادثة طلاق بين صديقة لاجئة وزوجها، والآن لا صديقتي ولا زوجها السابق يعلمان بمكان وجود طفليهما!.. أنا خائفة جداً على مستقبلي ومستقبل أبنائي هنا”.

المنزل:

أما الحصول على منزل خاص، لفرد لاجئ أو لعائلة، للتخلّص من معضلة السكن في الكامب، فيعتبر من أصعب الأمور وأعقدها. حيث يضطر اللاجئ لدفع مبالغ طائلة للحصول على منزل صغير بأثاث بسيط.

فعلى الرغم من تكفّل مكتب “الجوب سنتر” بتأمين ودفع آجار المنزل، إلا أن اللاجئ لا يمكنه الحصول عليه إلا من خلال السماسرة.

وعن عمل السمسار يتحدث “محمود.ح” عن معاناته وأسرته مع السكن، فيقول: “لحقت بزوجتي إلى ألمانيا بعد أن أنجبت طفلتنا في الكامب. ونتيجة المشاكل الجمّة التي لمسناها هناك لم نعد نحتمل الاستمرار فيه، فقررنا البحث عن منزل في المنطقة. وبعد معاناة عدة أشهر استطعنا في النهاية تأمين منزل صغير بمساحة 35 متراً مربعاً، ولكن بعد دفع 2000 يورو للسمسار بحجّة أن صاحبة المنزل لا تريد تسليمه إلا بشرط شراء أغراضها القديمة الموجودة بداخله بألف يورو، والسمسار أراد ليده ألفاً أخرى. وبالطبع قبلنا بالعرض مجبرين رغم أني قمت برمي الأغراض خارج المنزل لأنها لا تساوي شيئاً! كل هذا بالإضافة إلى مبلغ تأمين المنزل وشراء الأغراض اللازمة، ليصبح مجموع ما دفعته في المنزل 4 آلاف يورو، لم يعطني منها الـ “جوب سنتر” سوى 50% تقريباً من قيمة الأغراض المشتراة”.

يكمل محمود مبتسماً “لقد اقترضت معظم النقود لتأمين المنزل، ليتني بقيت بتركيا وفتحت مشروعاً بها”.

أما زوجته فتعقّب: “ما يحزّ بنفسي أن السلطات الألمانية تعلم جيداً بأولئك الذين يستغلون السوريين، من سماسرة وغيرهم، لكنهم لا يحاسبونهم، أما عندما نخطئ نحن بأي شيء فسرعان ما يتم الضغط علينا وتهديدنا.. ثم يأتون ليقولوا لك بأن هذه الدولة دولة قانون!”.

راتب اللاجئ:

يتقاضى اللاجئ السوري مرتباً يتراوح بين 300- 404 يورو شهرياً لتغطية طعامه وشرابه ولباسه وتنقلاته ووسائل اتصالاته (إنترنت وموبايل)، وهذا الراتب لا يكاد يكفيه نصف أو ثلثي الشهر، وغالباً ما يتشارك 3-4 لاجئين في منزل واحد للتوفير في المصروف، وكذلك الأمر بالنسبة للعائلات.

أما المؤسسة الاستهلاكية المسماة “تافل” التي يبتاع منها غالبية اللاجئين نظراً لرخص موادها، فيُباع فيها أردأ أنواع الخضار والفاكهة.

العنصرية:

يتّفق جميع اللاجئين السوريين دون استثناء على أن غالبية الشعب الألماني عنصري، وينظر إلى اللاجئين عموماً نظرة فوقية، بغض النظر عن وجود المتفوقين وأصحاب الكفاءات والشهادات العليا الموجودين بين اللاجئين السوريين. فمعظم الألمان يعتبرون المهاجرين دخلاء عاطلين عن العمل يتم الدفع لهم من خلال الضرائب المرهقة التي يدفعها المواطن الألماني لحكومته، والبعض منهم يعتبرهم تهديداً مباشراً على المجتمع الألماني وأعرافه.

وفي معرض الحديث عن العنصرية يعلّق “عمران.ط” فيقول: “تشعر بالعنصرية ونظرة الدونية تجاهك حتى من بائع “التافل” حين يناولك بعض الفاكهة ويسألك: هل هذه الفاكهة موجودة في بلدك؟.. غالبية الألمان عنصريون لكنهم حذرون من البوح بها بسبب العقدة التاريخية من النازية التي جرّت على ألمانيا الويلات في الحرب العالمية الثانية وما بعدها أيضاً”.

تأخير معاملات القاصرين:

نسبة اللاجئين إلى ألمانيا من القُصّر، تحت سن 18 سنة، تشكّل تقريباً 28% من مجمل اللاجئين السوريين. وتعاني هذه النسبة من تأخير مقصود لعملية منح صفة اللجوء، أو منح إقامة 3 سنوات لأفرادها، إلى حين بلوغهم سن 18 سنة، كي لا يتمكّنون من لمّ شمل عائلاتهم. حيث لا يحقّ لمن يتجاوز سن الـ 18 لمّ شمل أسرته لاحقاً.

يقول “هاني، ب”: “تمكّنت من الوصول إلى ألمانيا لوحدي، وبقي والديَّ في تركيا لأنهما لم يستطيعا تأمين المبلغ المطلوب للمهرّب، وكان عمري وقتذاك 15 سنة، وبقيت أنتظر منحي إقامة الثلاث سنوات لأتمكّن من طلب والدي ووالدتي ولكن الحكومة منحتني بدل ذلك إقامة لسنة واحدة. والآن، وبعد تجاوزي سن الثامنة عشر حصلت على إقامة 3 سنوات لكني لا أستطيع تقديم طلب لمّ الشمل لأهلي.. وأفكّر حالياً بترك ألمانيا والعودة إلى تركيا للعيش معهما".

تغيّر السلوك والأعراف:

شيئاً فشيئاً، بدأت تطفو على السطح تغيّرات في الأساليب والعادات والسلوك لدى البعض من فئة الشباب السورين، من كلا الجنسين. والسبب الرئيس في ذلك يعود لنظرة ازدراء من بعض الألمان إلى المسلمين وطريقة لباسهم وعاداتهم وسلوكهم، ما دفع العديد من الفتيات إلى خلع الحجاب ونبذ اللباس المحتشم.

أما ما يتعلّق بالشبّان، فيقول “أنس،د” وهو شاب يعمل في مجال النشاط المسرحي والكتابة الصحفية: “العديد من الشباب الذين كنت أعرفهم في سوريا، والذين كانوا يجتنبون حتى الدخان، صاروا يتعاطون الحشيش المخدّر ويشربون المشروبات الروحية بكثرة.. ليس لأن الألمان هكذا أبداً، وإنما لشعورهم بالعجز والملل أحياناً وكذلك لشعورهم بالانسلاخ المجتمعي وصعوبة الاندماج. السوري هنا يشعر بأنه مسلوخ الإرادة.. عبارة عن آلة.. مواطن سيعيش مستقبلاً لدفع الضريبة فقط، كالألمان”.

“المنظمات الألمانية بشكل عام تساعد المبدعين والفنانين السوريين في الأنشطة الثقافية والأدبية والمسرحية والموسيقية وغيرها، ولكن فقط للكسب على اسم اللاجئين، ولجلب استعطاف المجتمع، ولإبراز نشاطاتهم بأنهم يعملون لأجل اللاجئ، وأن اللاجئين يعملون ويبدعون.. وهكذا” يستطرد أنس.

ختاماً..

تشهد دول أوروبا اليوم، وخاصة ألمانيا، هروباً عكسياً باتجاه تركيا. فبعد أن خاطر السوريون بأرواحهم بحراً وبراً ودفعوا للمهربين كل ما يملكون من أموال للعبور إلى جزر اليونان، صار العديد منهم اليوم يدفعون أضعافاً مضاعفة للمهربين من الطرف اليوناني ليعيدوهم إلى الأراضي التركية التي تركوا فيها أهلهم وأبناء بلدهم، متخلّين عن "جنّة" ألمانيا، التي يصفها "أنس.د" بقوله: "إنها الجحيم بعينه، كنا في سوريا نعاني من القمع الأمني أما هنا فنحن نعاني إضافة إلى ذلك من القمع الإنساني بكل جوانبه، من الحكومة ومن المواطنين، ولن أحدثك عن رؤوس الخنازير التي كنت أجدها مرمية أمام باب منزلي!.. سأفعل ما بوسعي لأعود إلى تركيا قريباً".

عن الكاتب

أحمد طلب الناصر

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس