يوسف كابلان – صحيفة يني شفق – ترجمة وتحرير ترك برس

بالتأكيد لا توجد أي حكومة ترغب في إدخال دولتها في حرب جديدة، لكن إن كانت القوى الإمبريالية محيطة بالدولة وتستهدف وجودها وأمان حدودها وبالتالي استقلالها فذلك يعني أن الدولة المعنية تواجه الخطر، وفي هذه النقطة يجب على الدولة أن تبدأ بالاستعداد للإطاحة بمخططات تلك القوى وقلبها رأساً على عقب.

للمرة الأولى تظهر تركيا في الساحة وطاولة الحوار في الوقت نفسه

وصلت تركيا إلى المرحلة الحرجة فيما يخص الملف السوري، إذ ستؤدي عملية عفرين إلى تغيير الموازين وتوضيح رؤية تركيا للمستقبل وتسهيل تحركها وزيادة مجال التوسّع أمامها في الساحة، في حين تمثل عملية درع الفرات ومرحلة أستانة خطوات هامة في سبيل توسيع مجال المناورة لتركيا، وستستمر هذه الخطوات في التضاعف، كما ستكون عملية عفرين بمثابة بداية جديدة لعملية درع الفرات الثانية، وأنا أؤمن بأن تركيا ستصل إلى مرحلة الإطاحة بالظروف التي شكلها الأمريكان والبريطانيون وأخذ زمام المبادرة في يدها وإثبات وجودها في طاولة الحوار من خلال الأداء الذي ستظهره في الساحة.

أصبحت تركيا في ذروة قوتها خلال القرن الأخير، وأثبتت وجودها في الساحة وطاولة الحوار في الوقت نفسه، ولكن يجب عليها أن تزداد حذراً تجاه الفخاخ التي قد تُنصب لها إضافةً إلى التوقع المسبق لنتائج الخطوات المتخذة.

الغرب هو رمز الهمجية، وتركيا الحضارة

يجب على تركيا رؤية الحقيقة التي تفيدى بأنها الهدف الوحيد للاستراتيجية التي يمارسها الغرب في المنطقة خلال العقود الأخيرة، وبناء على ذلك يتوجّب عليها تطوير استراتيجية قوية لتتمكن من الوقوف في وجه الهجمات التي يشنها الغرب ضدها.

لكن لماذا تمثل تركيا الهدف الرئيس للغرب؟

السبب الأساسي لذلك هو أن الغرب قد أثبت من خلال الخطوات التي اتخذها في المنطقة خلال العقود الأخيرة أنه رمز الهمجية، إذ بدأ الأمريكان والبريطانيون والإسرائيليون برسم الخرائط الجديدة، ونشر الفتنة بين جميع العوامل والاختلافات الموجودة في المنطقة وممارسة سياسة الاحتلال والقتل وإسراف الدماء، هل يمكن وصف ذلك بكلمة غير الهمجية؟

كما كانت عبارة "عهد الهمجية الجديد" التي استخدمها "جين باودريلارد" مشيراً إلى الهجمات التي نفذها الأمريكان خلال احتلالهم للعراق والتي أسفرت عن مقتل الآلاف من الأبرياء عبر إطلاق صواريخ التوماهوك والسمارت بضغطة زر واحدة بكل بساطة ومحاولاتهم لتأسيس هيمنة جديدة في المنطقة كافيةً لتلخيص النموذج الهمجي الذي يمارسه إمبرياليي الغرب خلال الوقت الحاضر، في حين أن تركيا قد أظهرت للعالم أنها تمثل رمز الحضارة من خلال سياسة الرحمة والعدالة والصلح والأخوة التي مارستها مؤخراً خلال علاقاتها مع الدول والشعوب الأخرى.

بدأت تركيا بتفعيل ديناميكياتها النفسية-التاريخية والنفسية-الثقافية.

أثبت الغرب من خلال الاحتلالات والمجازر التي ارتكبها خلال العقود الأخيرة في دول البلقان والقوقاز وآسيا الداخلية والشرق الأوسط والداخل الأفريقي أنه رمز الهمجية، في حين أثبتت تركيا أنها رمز الحضارة من خلال مبادراتها التي توضّح أنها تمثل صوت المظلومين في جميع أنحاء العالم، وكما قال الرئيس أردوغان: "العالم أكبر من خمسة" مشيراً إلى الدول لاخمسة التي تحمل عضوية ثابتة في مجلس الأمم، كما فتحت تركيا أبوابها للمظلومين في سوريا، ووقفت إلى جانب المظلومين في أراكان وفلسطين وتركستان الشرقية ومورو وجميع أنحاء العالم التي يصعب الوصول إليها وأوصلت صوتها ودعمها إليهم مؤكدة من خلال ذلك على أنها تمثل رمز العدالة والرحمة والصلح والحضارة، وأوصلت هذه الرسالة لجميع القوى الإمبريالية والعالم المضطهد من قبل هذه القوى.

لقد أصبحت تركيا رمز الحضارة لأنها بدأت بتفعيل ديناميكياتها النفسية-التاريخية والنفسية-الثقافية تجاه هذه الجغرافيا الحضارية المضطهدة من قبل الغرب، فضلاً عن كونها الدولة الوحيدة التي تتضمن الروابط النفسية-التاريخية والنفسية-الثقافية إضافةً إلى ثقافة التاريخ المشترك والخبرة فيما يخص مفهوم الحضارة في الجغرافيا العثمانية التي تقع عند نقطة تقاطع ثلاث قارات وتتكون من دول البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، وأثبتت للعالم والرأي العام أنها قادرة على نشر هذه الديناميكيات في جميع أنحاء هذه الجغرافيا الحضارية.

لا يمتلك الأمريكان والروس والأوروبيون مثل هذه الخبرة والديناميكيات، والسبب الوحيد لوجودهم في هذه الجغرافيا هو الاحتلال والاستغلال والقتل، أليس ذلك رمزاً واضحاً للهمجية؟

لذلك يجب أن نرى هذا الواقع، وهو أن وجود احتمال انتعاش تركيا وكونها قادرة على جمع دول المنطقة والنهوض بها يكفي لإصابة الغرب بالجنون ودفعه لارتكاب أخطاء فادحة، إذ حصلت تركيا على فرصة تاريخية للمرة الأولى نظراً إلى أنها تمتلك التفوق النفسي،  وأصبحت مؤخراً على وشك الوصول إلى مرحلة التفوق الاستراتيجي وأخذ زمام المبادرة في يدها، إذ ستشكل عملية عفرين وتوابعها سبيل دخول تركيا بقوة أكبر للمنطقة، لذلك يجب على الحكومة التركية تفادي الوقوع في الفخاخ وارتكاب الأخطاء الكبيرة، إضافةً إلى التسرّع والتعمّق في تنفيذ عملية عفرين.

تمكنت تركيا في السنين العشرة الأخيرة من توسيع أفقها إلى كافة أنحاء الجغرافيا الحضارية بعد أن كانت محاصرة في شبه جزيرة الأناضول لأكثر من قرن وستبدأ بحصاد ثمرات ما زرعته خلال المراحل القادمة، وبطبيعة الحال ذلك لا يخلو من المخاطر، لكن لا يمكن إزالة الحواجز التاريخية دون مواجهة هذه المخاطر، لذلك ندعو الله أن يكون في عون تركيا ورئيسها أردوغان خلال هذه المسيرة.

عن الكاتب

يوسف كابلان

كاتب في صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس