د. عطية عدلان - خاص ترك برس

لماذا أُنشئت الجالية المصرية بتركيا ؟ سؤال قد يبدو بسيطاً، وقد لا تتجلى دلالاته - لأول وهلة - إلا في حدود النظر إلى المشكلات التي يعانيها المغتربون وطرق التصدي لها؛ وهذا أمر طبيعيّ لا يستتبع ملامة ولا مَذَمَّة، لكنَّ الجمود عند الغايات القريبة دون استشراف لما وراءها من رؤى غائية قد يشير إلى ذبول التفكير وسقوط الهمَّة.

ولابد في بداية هذه المعالجة أن نلفت النظر إلى حقيقتين باديتين للناظرين، الأولى: أنَّ غالبية الأفراد المكونين للجاليات العربية مهاجرون قسرياً من بلادهم إلى تركيا؛ بسبب ما يقع عليهم من ظلم أو اضطهاد في ظل أنظمة مستبدة، ولكون تركيا هي البلد المسلم الوحيد الذي شاء ألا يتأخر عن واجبه الإنسانيّ في إيواء المطاردين؛ من منطلق موروثه الحضاريّ الإسلاميّ أولاً، وثانياً من منطلق تمسكه بالأعراف الإنسانية والمواثيق الدولية التي تقضي باحترام حقوق الإنسان.. جنس الإنسان.

الحقيقة الثانية: هي أنَّ الآصرة التي تربط بين الشعب التركيّ والشعب المصريّ تتميز ببعد حضاريّ إسلاميّ أوجده ذلك التعانق المتين بين الآستانة كمظلة سياسية سيادية توفر الحماية للشعوب الإسلامية، وبين القاهرة بأزهرها ومقارئها كمركز للبث الروحيّ في العالم الإسلاميّ كله؛ ومن هنا يبدأ التفسير المنطقيّ الذاهب إلى أعماق التاريخ لظاهرة الترحيب فوق العاديّ من الشعب التركيّ الواعي للمصريين اللائذين بتركيا.

فأمّا الحقيقة الأولى فإنّ الربط بينها وبين الأسباب التي كانت وراء ظاهرة الهجرة إلى تركيا تؤكد أنّ ظرفاً يتهيأ بشكل طبيعيّ غير متكلف ولا مصنوع؛ لإحداث تلاقح فكريّ وثقافيّ وحضاريّ بين شعوب هذه الأمَّة الكبيرة الممتدة، وأنَّ هذا الظرف يصادف بداية تحول حضاريٍ كبير تبدو إرهاصاته من وراء أكمة الشدائد المتوالية؛ ومن ثمَّ يتبلور دور كبير للجاليات العربية في تركيا، يتمثل في تسهيل حدوث هذا التلاقح، وفي إزالة العقبات الاجتماعية والنفسية والخلقية والثقافية التي تعيق الاندماج السويّ في المجتمع التركيّ، هذا بالإضافة إلى جميع الأدوار التي تهدف في النهاية إلى إماطة شعور الغربة وإلى تهيئة المناخ اللازم للنمو الجيد على كل المستويات.

وأمَّا الحقيقة الثانية فتعني أنَّ ذلك التمازج المنشود سيكون بين المصريين والأتراك أقوى وأوثق وأسهل وأقرب، وسيكون كذلك أشد نفعاً؛ لما سبق، ولكون أغلب مكونات الجالية المصرية من أرباب الفكر وأصحاب الرؤى والمواقف السياسية الإصلاحية النزيهة التي جعلت الكثيرين منهم مستهدفين بأعيانهم وأشخاصهم من قبل نظام انقلابيّ مستبد غاشم ومنتهك للحريات ولحقوق الإنسان، وليسوا مجرد شعوب مهجرة تحت وطأة الكوارث ووقع الظلم.

ومن هنا كان الدور الذي يناط بالجالية المصرية غاية في الأهمية والخطورة، ولاسيما في أوضاع داخلية وخارجية تعيشها الأمّة التركية، وتعيشها الأمّة الإسلامية كلها، وعليه فإنَّ الدور الاجتماعيّ والثقافيّ هو الدور الأبرز، إضافة إلى تقديم الخدمات التي يصعب تحقيقها دون آلية مؤسسية للتواصل مع مؤسسات الدولة التركية، وهي مسألة تظهر أهميتها في دولة مؤسسات تحسن التخاطب والتعامل مع مؤسسات ذات ثقل قانونيّ وسلوك سياسيّ وقانونيّ واجتماعيّ متزن.

إنّنا - بحق - نطمع في أن يكون للمصريين بتركيا بيتٌ يستظلون به، ويتعلمون في ظلاله أنَّ اختلاف الرؤى السياسية والمواقف الفكرية إذا بني على خلفية اجتماعية واحدة فإنَّه يثمر تعددية تنوع لا تضاد، ويثري العقول والنفوس، وينسق بين الجهود من أجل خير ومصالح البلاد والعباد.

كما نطمح في رحاب هذه الجالية أن يجد أبناؤنا وبناتنا فرصة للتواصل وممارسة الأنشطة الثقافية والفنية والعلمية والرياضية؛ التي تنميهم من جهة، ومن جهة أخرى تسهل اندماجهم في المجتمع التركي؛ بما يحقق الآمال الكبار والأحلام العظام.

من أجل ذلك كله قامت نخبة من الساعين في الخير بتأسيس جمعية للجالية المصرية وترخيصها رسمياً، ويجري الآن التواصل مع الجهات التي يجب أن يكون للجالية تواصل معها، وعمّا قريب ستجرى الانتخابات؛ لينتهي دور المؤسسين المؤقت، وتنطلق الجالية بقيادتها التي تستمد شرعيتها من اختيار المصريين لها؛ فالله نسأل أن يتم النعمة. 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس