ترك برس

هيمنت بريطانيا العظمى، الدولة الاستعمارية الكبرى، في منتصف القرن التاسع عشر على الهند لكونها الدولة اﻷولى في إنتاج العديد من المواد الولية كالخشب والتوابل، ومهّدت دولة الهند البريطانية أو الراج البريطاني لغزو واحتلال العراق، بإيعاز من لندن. واعتمدت بريطانيا سياسات منذ أكثر من مئتي عام، تقضي بعقد اتفاقات تجارية وإرسال سفراء وقناصل ومستشرقين لدراسة المجتمع العراقي، كل ذلك بهدف ضم العراق لبريطانيا.

ومع بدء الحرب العالمية اﻷولى في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1914، أنزلت حكومة الهند البريطانية الشرقية، جيشا مؤلفا من خليط من بريطانيين وهنود في عدة فيالق وسُمي “جيش الليفي”. ووطئ أول جندي هندي بريطاني منطقة رأس الخليج العربي بين الكويت والبصرة، وحدثت معارك بين القوات البريطانية والجيش العثماني الذي دعمته وساندته قوات العشائر العراقية.

كان من أشهر تلك المعارك معركة كوت الزين التي قتل فيها الكثير من أبناء القبائل العربية وعلى رأسهم الشيخ شلال الفضل الوائلي زعيم عشائر الشرش في القرنة (كورنا) قبل وصول القوات البريطانية إلى الكوت. وتتبع مدينة القرنة إداريا لمحافظة البصرة، وتعتبر واحدة من أغنى مدن العالم من حيث الموارد النفطية، وتبعد عن مدينة البصرة 74 كيلومتر، ويبلغ عدد سكانها نحو 450 ألف نسمة حسب احصائيات عام 2014.

تقع الكوت على ضفاف نهر دجلة جنوب العاصمة بغداد، وتبعد عنها قرابة 180 كيلومتر، ويبلغ عدد سكانها 422 ألف نسمة بحسب إحصاء عام 2014، وهي المركز اﻹداري لمحافظة واسط العراقية. أما واسط فهي محافظة حدودية مع إيران عبر معبر بدرة -مهران. وكانت تسمى الكوت سابقا بكوت اﻹمارة، وتتكون الكوت من عدة أقضية و هي قضاء العزيزية، والصويرة، والنعمانية وقضاء بدرة وغيرها، ويتبع قضاء الكوت إداريا ناحيتي الشيخ سعد وناحية واسط.

لم يتمكن الحيش البريطاني من بسط سيطرته على البصرة، إلا بعد شهرين بإسناد من الشركات التجارية البريطانية الهندية وبمعاونة الجواسيس العاملين في القنصليات البريطانية. ومنيت القوات الغازية البريطانية بخسائر جسيمة على يد الجيش العثماني في معركة الشعيبة في نيسان/ أبريل 1915، واستمر توغل البريطانيين شمالا، وانقسمت إلى نصفين عند القرنة موقع تلاقي دجلة بالفرات في شط العرب.

استمرت القطعات بالتوغل صعودا مع مجرى النهرين، وواجهت القوات الغازية مقاومة من الجيش العثماتي والمتطوعين من العشائر ، وواجهت هجوما مقابلا على تخوم مدينة الكوت، بوصفها الخط الدفاعي العسكري اﻷخير لبغداد. ومنيت قوات الاحتلال بخسائر جسيمة حوصرت على إثرها القوات البريطانية لأربعة أشهر حيث أنهكها اﻹعياء الثقيل وقلة التموين واﻹمداد وسوء اﻹدارة والتنظيم علاوة على قسوة الظروف المناخية، مما أدى إلى استسلام القوات البريطانية بيد الجيش العثماني في أبريل 1916، وانهارت الحملة البريطانية.

كيف كان وضع الجيش العثماني

في تلك الفترة كان الجيش العثماني في الجبهة الشرقية في أذربيجان وشرق اﻷناضول، وأيضا في الجبهة الغربية في البلقان، كما أن انهيار بعض الجبهات اﻷلمانية وانسحاب روسيا من الحرب في أعقاب الثورة البلشفية الشيوعية أدى إلى تقهقر الجيش العثماني.

شجع ذلك الوضع الغزاة البريطانيين على دخول صعب لمشارف بغداد في مارس 1917، ووصلوا إلى مشارف كركوك في آب/ أغسطس 1918 مما أدى إلى خسائر كبيرة في الفيلق السادس العثماني، إلا أن الغزاة توقفوا عن التقدم.

هدنة موردوس

دفع الاحتلال البريطاني لمعظم أراضي العراق، والهزائم العثمانية فيها وفي الشام والحجاز واليمن، إضافة إلى هزائم دول المحور بشكل عام في أوروبا، إلى عقد هدنة موردوس بين الحلفاء والدولة العثمانية. تضمنت هذه الهدنة انسحاب الجيوش العثمانية من مواقع القتال في العراق.

طالبت بريطانيا بانسحاب الجيش العثماني من ولاية الموصل تنفيذا للهدنة، فرفض الحاكم العسكري للموصل تسليمها لكونها لم تدخل المواجهات الحربية المباشرة ولم يحدث بها أي اشتباك أو قتال. وأذعن الحاكم العثماني أخيرا للطلب وسحب قواته في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، ودمجت ولاية الموصل إداريا مع ولاية شهرزور “إقليم شمال العراق“ لاحقا.

لم يعد للدولة العثمانية منذ ذلك التاريخ أي سلطان على العراق. وعزمت القيادات العراقية المنتمية للجمعيات السرية المنادية باستقلال العراق والدول العربية عن الدولة العثمانية، على المطالبة بديار بكر وضمها للعراق، كونها تتضمن عشائر عربية كبرى و قع شمال الموصل.

"مائة سنة على الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين"

و هو اسم لكتاب جديد صدر عن دار “كرييت سبيس” (Createspace) بلندن للباحث العراقي نديم العبد الله، تضمن تسعة فصول، وركز في الفصل اﻷول على الحملة العسكرية البريطانية على بلاد ما بين النهرين التي تعتبر تداعياتها الحدث اﻷكثر أهمية في تاريخ القرن العشرين.

قسّم الباحث الفصل السادس إلى مرحلتين أساسيتين، تبدا اﻷولى باحتلال الفاو والبصرة، ثم السيطرة على العمارة والناصرية والكوت وحصارها الشهير الذي استمر خمسة أشهر، ثم استسلامها الكامل للجيش العثماني، وإلقاء الحكومة البريطانية اللوم على الفريق جون نيكسون، لاتخاذه قرار التقدم إلى بغداد من دون قوة كافية.

أما المرحلة الثانية، فتتمثل بالتغييرات الجذرية التي أحدثتها الحكومة البريطانية في الجيش البريطاني عددًا وعدة، وتعيين الجنرال مود الذي أعاد احتلال الكوت واندفع منها إلى بغداد. وتوالت بعد ذلك انتصارات الجيش البريطاني الهندي، الذي دخل كركوك والموصل من دون قتال ووافق على استسلام الجيش العثماني، وإعلان الهدنة في 30 أكتوبر 1918.

وركز الباحث في الفصل السابع على الجبهات الثلاث اﻷخرى، وأولها جبهة مصر -فلسطين التي كان يقودها الجنرال إدموند اللنبي، واحتلت قواته القدس في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1917. كما سقطت دمشق في 1 أكتوبر 1918، وتبعتها حمص في 16 أكتوبر، وحلب في 25 أكتوبر 1918، وجبهة الجزيرة العربية التي قادها اﻷمير فيصل بمساعدة توماس إدوارد لورنس المعروف بلورنس العرب.

أما الجبهة الثالثة فهي جبهة جناق قلعة، فقد قاتل البريطانيون ضد الجيش العثماني، لكن هذه الحملة لم تكن موفقة للبريطانيين واﻷستراليين معا. وفي خاتمة الكتاب قارن الباحث بين الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين 1918 -1914، والحملة العسكرية الأمريكية عام 2003، حيث تكبّد الطرفان مبالغ مادية هائلة، وغيّرت الحملتان وجه العراق.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!