أسامة حساني - خاص ترك برس

أن يصدح صوت الأذان هنا في سماء إسطنبول، إنها لمعجزة صمدت منذ 562 سنة إلى يومنا هذا تستدعي التوقف والتأمل في تاريخها. 562 عاماً مضت وما زالت القسطنطينية تحمل في ثناياها إلى يومنا هذا عظمة إمبراطورية إسلامية فرضت سيادتها على ثلاث قارات.

قسطنطينية أبهى وأعظم مدينة شهدتها الإنسانية في قرونها الوسطى، كانت القسطنطينية منذ قيامها تجذب أنظار العالم القديم، خلفت مدينة روما كعاصمة للإمبراطورية الرومانية العظيمة وانتزعت منها الشهرة العريضة التي كانت تتباهى بها، وغدت في نحو قرن من الزمان تضارع روما، بل تفوقها في جمالها، واتساع رقعتها، وعظمة صروحها. وقد أخذت أهميتها الخاصة لدى المسلمين حيث كانت عاصمة الدولة البيزنطية ومركز انطلاق الغزوات المعادية للمسلمين، فضلاً عن نبوءة محمد عليه الصلاة والسلام الذي قال فيها: "لتفتحنَّ القسطنطينيةَ، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش"، وهذا ما ألهم الكثير من قادة المسلمين عبر التاريخ أن ينالوا شرف هذا الثناء النبوي العظيم بفتح القسطنطينية.

يذكر المورخ النمساوي "فون هامر" أن القسطنطينية  قد حوصِرت تسعة وعشرين مرة منذ تأسيسها وقد كان أول من حاصرها من العرب في عهد معاوية بن أبي سفيان عام 654 م ابنه يزيد، ثم حاصرها فيما بعد سليمان بن عبد الملك، وحاول كثيرٌ من الخلفاءِ والأمراء أن يحقِّقوا هذه البشرى، إلا أنّ المسلمين لم يوُفقوا إلى فتح أسوارها المنيعة والظفر بهذا الثَّناءِ النبوي، إلى أن استأثرَ به السُّلطانُ محمَّد الثاني بن مراد الثاني أشهر سلاطين الدولة العثمانية، الذي تولى سلطة الدولة العثمانية عام 1451م. تكلم بالعربية والفارسية واليونانية والسلافية، وناصر العلوم الإسلامية، كان قد أوصاه والده بفتح القسطنطينية فنشأ حالماً طموحاً في أن ينال ثناء النبوة بهذا الفتح العظيم، فاجتهد ونجح في فتحها بعد أقل من ثلاث سنوات لتوليه الحكم، ولُقّب بالفاتح لما كان لفتح القسطنطينية من أثر في ازدهار الحضارة الإسلامية، حتى أُطلِقَ على المدينة بعد الفتح اسم "إسلامبول" أي عاصمة الإسلام.

بذل الفاتح جهوداً كبيرة للاستعداد لهذا الفتح العظيم، واهتم في إعداد جيش بلغ ما يقارب ربع مليون مجاهد خُصِصوا لهذا الفتح، وتم تدريبهم على مختلف الفنون القتالية وتجهيزهم بمختلف الأسلحة، كما اعتنى بإعدادهم معنوياً فغرس روح الجهاد فيهم، وراح يكرر على مسامعهم ثناء الرسول عليه الصلاة والسلام على الجيش الذي يوُفق إلى فتح القسطنطينية مما بث فيهم شجاعةً وروحاً عالية.

بدأت أولى تحركات الحصار الاستراتيجية بإقامة قلعة (روملي حصار) على مضيق البوسفور لما لها من أهمية عسكرية في هذا الموقع بمنع السفن من الوصول إلى القسطنطينية في حال طلبت المدينة الدعم من المناطق التي تقع شرقها، كما أولى السلطان عناية خاصة في جمع الأسلحة الازمة ومن أهمها المدافع حيث أحضر مهندساً مجرياً اسمه (أوربان) كان بارعاً في صنع المدافع، فتمكن هذا المهندس بعد أن وفّر له السلطان جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية من تنفيذ  العديد من المدافع الضخمة وأبرزها المدفع السلطاني المشهور، وعمل على تقوية الأسطول البحري وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً لحصار تلك المدينة البحرية التي يستحيل حصارها دون وجود قوة بحرية هائلة كونها محاطة بالمياه من ثلاث جهات، وقد بلغ عدد هذا الأسطول ما يقارب 400 سفينة.

سياسياً أيقن الفاتح ضرورة التفرغ لعدو واحد فعقد المعاهدات مع أعدائه في إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، وعقد المعاهدات مع المجر والبندقية وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة إلا أنه فيما بعد لم تصمد هذه المعاهدات حين بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.

في هذه الأثناء كان الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين" يسعى بشتى الطرق لإقناع الفاتح بالتخلي عن هدفه، إلا أن الفاتح كان قد عزم على تنفيذ مخططه وهدفه في الفتح المنشود، ولمّا يئس الإمبراطور البيزنطي من إقناع الفاتح بالتخلي عن غايته عمِد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول الأوروبية.

موقع القسطنطينية الجغرافي أعطاها قدرة دفاعية كبيرة حيث كانت محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البوسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمي بسلسلة ضخمة تمنع مرور السفن المعادية إليه، وفي البر حُصّنت ما بين بحر مرمرة إلى القرن الذهبي بخطين من الأسوار يرتفع السور الداخلي 40 قدماً، وله أبراج يصل ارتفاعها حتى 60 قدماً، والسور الخارجي يبلغ ارتفاعه قرابة 25 قدماً، وبالتالي من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً.

بدأت تحركات الجيش العثماني فمُهّد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لجر المدافع العملاقة، واستغرق نقل المدافع قرابة الشهرين حتى وصل الجيش العثماني إلى مشارف القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح يوم (26 ربيع الأول 857هجرياً الموافق 6 أبريل 1453م)، وبدأت المدفعية العثمانية تطلق قذائفها من مواقع مختلفة نحو أسوار المدينة مما أثار الرعب في قلوب البيزنطيين.

عاد الإمبراطور البيزنطي إلى محاولة إقناع الفاتح مجدداً فقدّم عروضاً مختلفة كالأموال أو الطاعة، ولكن الفاتح كان يأبى إلا أن تُسلم المدينة تسليماً فكان رده للبيزنطيين: "فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه، ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنها حيث أراد في أمن وسلام أيضاً"، إلا أن قسطنطين أصّر على الدفاع عن المدينة حتى آخر قطرة من دمه.

لم تنقطع الإمدادات من أوروبا ووصلت خمسة سفن من "جنوة" بقيادة القائد "جستنيان" حيث استطاع أن يصل إلى العاصمة البيزنطية بعد مواجهة مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة، مما رفع معنويات البيزنطيين، وقد عُيّن جستنيان قائداً للقوات المدافعة عن المدينة.

كان الحصار لا يزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في أيدي البحرية البيزنطية إلى أن برزت فكرة عبقرية في ذهن الفاتح وهي نقل السفن العثمانية من مرساها في بشكطاش إلى داخل القرن الذهبي وذلك من خلال طريق بري بين الميناءين، وقد كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلاثة أميال، وكانت تلالاً غير ممهدة، فبدأت الخطة بتسوية الأرض وتمهيدها، ثم فرشها بألواح خشبية مطلية بالزيت والشحم، وسُحِبت السفن على تلك الألواح إلى أن وصلت إلى نقطة آمنة فأُنزِلت في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو حيث جرت العملية في الليل بعيداً عن أنظار العدو.

إنها لمعجزة حدثت في عصرها أبرزت عقلية العثمانيين الخلاّقة في سرعة التفكير والتنفيذ، ولقد تعجب الروم كثيراً عندما علموا بها، واستيقظ أهل المدينة صباح يوم 22 أبريل/ نيسان على تكبيرات العثمانيين في القرن الذهبي وفوجئوا بالسفن العثمانية تسيطر على ذلك المعبر المائي، وقد عبّر أحد المؤرخيين البيزنطيين عن تعجبه من هذا العمل فقال: "ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يُحوِّل الأرض إلى بحار، وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الفاتح بهذا العمل الإسكندر الأكبر".

كان لوجود السفن العثمانية في القرن الذهبي أثر كبير في إضعاف الخطوط الدفاعية للمدينة حيث انسحب الكثير من القوات المدافعة عن الأسوار البرية إلى جبهة القرن الذهبي التي باتت أكثر عرضة للاختراق بعد دخول السفن العثمانية مما أدى إلى إختلال التوازن في الصفوف الدفاعية البيزنطية.

استمرت الخطط العسكرية المبدعة لدى الجيش العثماني حيث لجأ العثمانيون فيما بعد إلى حفر أنفاق تحت الأرض توصل إلى داخل المدينة إلا أن البيزنطيين اكتشفوا أمرهم حين سمع السكان صوت ضربات شديدة تحت الأرض تقترب من المدينة فتصدوا لهم، واستمر العثمانيون في حفر الأنفاق من مناطق مختلفة، وقد أُصيب أهل القسطنطينية بخوف عظيم وهلع تجاه هذا حتى أصبحوا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهم يمشون إنما هي أصوات حفر العثمانيين، وكثيراً ما كان يُخّيل لهم أن الأرض ستنشق ويخرج منها العثمانيون ويملؤون المدينة.

اشتد الحصار حتى أُرهِقَ من بداخل المدينة، وأخذت الإشاعات تُهيمن على المدينة وتُضعف من مقاومة المدافعين، وكانت المدافع العثمانية لا تهدأ ليلاً نهاراً في دك الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاء كبيرة من السور والأبراج، وباتت إمكانية اقتحام المدينة واردة في أي لحظة.

أيقن السلطان محمد الفاتح أن سقوط المدينة بات وشيكاً، ورغم ذلك حاول أن يدخلها بسلام، فكتب إلى الإمبراطور رسالة هي الأخيرة دعاه فيها إلى تسليم المدينة دون إراقة الدماء إلا أنّ الإمبراطور البيزنطي رفض.

في يوم الأحد 18 جمادى الأولى الموافق 27 من أيار/ مايو 1453 وجه السلطان الفاتح جنوده إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله بالصلاة والطاعات لعل الله أن يكتب لهم النصر، وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون ناراً كثيفة حول معسكراتهم وارتفعت أصوات التكبير.

في اليوم التالي 28 أيار كانت الاستعادات على أتم وجه، ألقى الفاتح على جيشه خطبةً موثرة قال فيها: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبنائنا فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرّاء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى، ويَدَعوا الرّهبان والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون....".

عند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 875 هجرياً الموافق 29 أيار/ مايو 1453م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن صدرت الأوامر للمجاهدين الذين ارتفعت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفاً عظيماً، وراحت تدق نواقيس الكنائس، والتجأ إليها الكثير من النصارى، وكان الهجوم النهائي متزامناً برياً وبحرياً في وقت واحد، ومع مُقاومة البيزنطيين وشجاعة العثمانيين راحت تتساقط الضحايا من الطرفين بأعداد كبيرة، وكان قد قسّم الفاتح الجيش إلى فرق بحيث يتم استبدال الفرقة بأخرى بعد أن تُنهك، وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة إذ استطاع ثلاثون منهم تسلق السور عند باب "طوب قابي" ورفعوا الأعلام العثمانية مما زاد في حماس بقية الجيش للاقتحام، وواصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى في "باب أدرنة" حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج ورُفِعت الأعلام العثمانية عليها، فلما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية تعلوا الأبراج الشمالية للمدينة أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لا يُعرف، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قُتِل، ولم تأتِ ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى الموافق 29 من أيار/ مايو 1453م إلا والسلطان الفاتح في وسط مدينة القسطنطينية، فهنّأ جنوده بالنصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً، ثم توجه إلى كنيسة أيا صوفيا حيث التجأ إليها كثير من الناس خوفاً فطلب من أحد الرهبان تهدئتهم فاطمأنّ الناس وعادوا إلى منازلهم، وأعطى للنصارى حرية إقامة شعائرهم الدينية، وسقطت منذ ذلك التاريخ الدولة البيزنطية إلى الأبد، وتغيَّرَ بذلك وجهُ التَّاريخ، وخريطةُ العالم السِّياسية، واعتبره المؤرّخون خاتمةً لما عُرِف بالعصورِ الوسطى وبدايةً للتاريخ الحديث.


مراجع:

- السلطان محمد الفاتح  فاتح القسطنطينية وقاهر الروم – د.عبد السلام عبد العزيز فهمي
- فاتح القسطنطينية  السلطان محمد الفاتح  - د.محمد الصلابى
- تاريخ الدولة العثمانية – يلماز أوزوتونا

عن الكاتب

أسامة حساني

محرر في وسائل التواصل الإجتماعي في ترك برس


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس