سهيل المصطفى - خاص ترك برس

أنى  لياسمين الشام أن يموت ولديه ذاكرة وقادة لا تذبل حتى و إن ذبُل الياسمين، سيبقى ينشر عبقه و طلعه وحَبَّه و حُبَّه مع كُلّ هَبّة نسيم شرقية أو غربية!

ويعرف هذا كل من تنشق عبير الياسمين في حواري الشام، ذاك العبير الذي يكبلك طوعاً، ليسوقك إلى حدائق بني أمية و بستان هشام!

كنت في الثامنة من عمري عندما اقتحم عناصر "القوات الخاصة" الغرفة التي استأجرها والدي في أطراف حي الحيدرية الفقير!!

لم أعِ ما يحدث، كان ذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

التصقت بجسد أمي رحمها الله، و احتضنتني وهي تُهديء من روعي وتقول لي: لا تَخف يا بُني... لا تَخف!

كنتُ مرعوباً ولم أستطع البكاء أو الصراخ و كانت عيناي ترقُبان حضور والدي الذي كان في عمله آنذاك!

بدأ عناصر القوات الخاصة ببعثرة أشيائنا القليلة، بغوغائية لم أعرفها إلا بعد حين بعد أن قرأت عن غزو المغول للبلدان التي اجتاحوها!

وفي خضم هذا المشهد المرعب، صدح صوتٌ غريب بلهجة فراتية ومن وسط حشد الجنود:

"شتسوون يا شباب؟ هذا بيت ابن عمي و آني ضامنوا إنه ما هو مخرب ولا لو علاقة بعصابة الإخوان، وبعدين هذا بيت عسكري متطوع بالجيش ورفيق حزبي، وهو هسه بداومه!".

كان صوت أبي غازي ابن قريتنا وعشيرتنا، و هو متطوع في جيش النظام (كما أخبرتني والدتي آنذاك رحمها الله).

توقف الجنود عن بعثرة أشيائنا وانتقلوا للغرف الأخرى في البناء الذي نسكنه، وكانت كل غرفة منه تضم عائلة فقيرة لا تقوى على استئجار أكثر من غرفة.

أعطاني صوت أبي غازي (شحنة شجاعة) فتركت حضن أمي وذهبت لمراقبة ما يحدث في حيّنا!

شاهدت جنود النظام وهم يضربون الشاب (سمير) ابن أبي سمير جارنا المسكين، وكان سميرٌ درويشاً ويصفه أهل الحي بأنه (على البركة).

لم يستوعب عقل سمير حملة التفتيش، فصرخ بوجه أحد الجنود وربما كان يظن أن الجندي سيستوعبه كما يفعل أبناء حيّه!

ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه!!

فقد دفع سمير الثمن غالياً وتم ضربه وسحله ورأيت حفنة من شعره تخرج بيد أحد الجنود!

ورسمت دماء سمير في الشارع خطّاً بدأ من باب منزله ولما ينته بالطبع عند أبواب الحافلة العسكرية، التي اكتظ فيها شباب الحي المعتقلون!

لن أنسى نظرات سمير الدرويش وهو يُسحل في الشارع، وفي لحظة مرعبة التقت نظراتي بنظراته، اقشعر جسدي و حارت نظراتي بعدها تبحث عن أبي!

مرّ يوم أو يومان لا أذكر!

و عرض عليّ والدي أن يأخذني في مشوار!

كنت سعيداً ولا أعطي فرحتي لأحد، كحال معظم الأطفال الذين يذهبون في مشاوير ونزهات مع آبائهم، ولم أسأل والدي عن وجهتنا، المهم أن أرافق والدي حيثما يذهب!

لم أكن أدري أن مقصدنا حي المشارقة في حلب!

ولم أفهم سبب ازدحام الناس آنذاك في هذا الحي، شعرت بالتوجس وقبضت على يد والدي بقوة، ودخلنا أحد الأبنية كمعظم من حولنا، و صُدمت بما شاهدت!

بقع الدماء في كل مكان على الأرض والجدران ووصل رذاذها للسقوف!!

ثياب ممزقة وكمية هائلة من فوارغ الرصاص التي لفظتها البنادق، ولا أدري بنادق مَـن؟

أهي بنادق من قاوم أم من اقتحم؟

حدثني صديق من مدينة حماة، أن في المدينة منازل هجرها أهلها إبان مجازر حماة الشهيرة، ولا تزال تلك المنازل تحتفظ ببقع الدماء على جدرانها وسُقُفها حتى اللحظة!

كيف لمخلوق أن يعيش في مملكة الرعب والدم على مدى عقود طويلة؟

كُنا نقف في طابور المدرسة لترديد الشعارات الصباحية، وكنت أتساءل لما يجبروننا على ترديد هذه الشعارات، ولماذا في الصباح الباكر؟

وكنت أقف مع نفسي كثيراً حول معاني تلك الشعارات، وخاصة شعار (قائدنا إلى الأبد... الأمين حافظ الأسد)!

أي أبد يقصدون؟

أهو الخلود؟

كان يزعجني هذا الشعار، ولكنني وجدت طريقة لتجاوز هذا الإزعاج، فقد اتفقت مع صديقي حسان التركماني والذي يكره آل الأسد، بأن نردد عبارة:

(سيدنا محمد) بدلاً من (الأمين حافظ الأسد).

فعلناها سوية وضاع صوتنا بين زحمة الأصوات، وتخلصنا من أحد القيود القميئة.

لكن حسان فاجأني مرة بتساؤل مرعب، وقال:

تخيل يا صديقي لو أن الجميع صمت لحظة ترديد عبارة (الأمين حافظ الأسد) ولم يبق إلا صوتي وصوتك وشعار (سيدنا محمد) فما الذي سيحصل لنا؟

ضحكنا كثيراً حتى أدمعت عيوننا، وذاك هو المضحك المبكي!

ما زال في ذاكرة الياسمين الكثير من الألم والأمل وأي ذاكرة دموية يحملها الياسمين الفواح؟

ذاكرة زُرع فيها بذور غضب ستونع ياسميناً فواحاً دون ألم في وقت نُقش في علم الغيب!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس