إبراهيم كالن - الجزيرة نت
سيتم تذكر مسيرة الحادي عشر من يناير/كانون الثاني في باريس كيوم توحد فيه العالم ضد الإرهاب ومن أجل حرية التعبير. فالجماهير والرمز الذي تجسد خلال المسيرة تـُمكن مقارنته بمظاهرات عام 1944 المنادية بالحرية.
إن التعددية السياسية والدينية والثقافية التي شاهدناها في ميدان الجمهورية هي دليل بارز على التصميم من أجل مكافحة التعصب والعنف، وهو الهدف الذي يجب علينا جميعا أن نسعى للوصول إليه.
وفي نفس السياق، أدت مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المسيرة إلى انتقادات واسعة. والسبب في ذلك أن إسرائيل قامت بقتل 2200 فلسطيني في شهر يوليو/تموز من العام الماضي، من بينهم 14 صحفيا؛ فلماذا لم يُظهر الغرب ردة الفعل نفسها التي أظهرها ضد اعتداء باريس؟ إن ذلك دليل واضح على ازدواجية المعايير ونفاق النظام العالمي.
ومن جهة أخرى، بينما توجهت كافة أنظار العالم لفرنسا -في نفس الأيام- قامت بوكو حرام بقتل 2000 إنسان في نيجيريا ولكن لم يتم ذكر هذا في الأخبار. وهنا يجب علينا التوقف عند ذلك والسؤال: لماذا؟
فبينما العالم يركز على إدانة الإرهاب، يقوم العنصريون التقليديون من اليمين واليسار بإدانة كافة المسلمين. وفي هذا السياق، بات صاحب العديد من وسائل الإعلام العالمية روبرت مردوخ بؤرة للانتقادات بعد أن أرسل تغريدة -على شبكة التواصل الاجتماعي "تويتر"- قال فيها إنه يجب جعل مسؤولية اعتداء باريس على عاتق كافة المسلمين في العالم.
إن رسالة مردوخ صريحة ومفادها أن الـ1.6 مليار مسلم في العالم هم متهمون حتى يركعوا أمام "أسيادهم البيض" ويطلبوا العفو منهم.
إن العديد من أصحاب الضمير في كافة أنحاء العالم أظهروا ردة فعل على تصريحات مردوخ المتسمة بالإسلامفوبيا، وبعضهم اعتذر باسم "الجنس الأبيض". فقد ردت مؤلفة سلسة "هاري بوتر" جي. كي. رولينغ على مردوخ قائلة "أنا ولدت مسيحية؛ وإذا كان هذا سببا في أن أتحمل مسؤولية روبرت مردوخ، فسوف أخرج عن ديني".
إن مغالطة منطق مردوخ هي دليل ذاتي، ولكنها بحاجة للتوضيح: إذا كان جميع المسلمين مسؤولين عن الإرهاب، فإذن كل أبيض مسيحي غربي هو أيضا مسؤول عن كافة المصائب في القرن الماضي، بما في ذلك الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر في أميركا، وسياسة الرق، والحربان العالميتان، والهولوكوست، وهيروشيما، وحرب فيتنام، والمذبحة في البوسنة... إلخ.
وبتوجيهه اللوم إلى كافة المسلمين، يقوم مردوخ -والذين على شاكلته مثل بيل ماهر وسام هاريس- بتبني نفس منطق القاعدة والمنظمات المتطرفة الأخرى الذي يعمم الإدانة على كافة "الغرب المسيحي". إذ يتم بسهولة التخلي عن الفطنة والدقة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين.
الإشكالية هي أن التعصب الأعمى والكراهية للإسلام والمسلمين تصنف على أنها أنها حرية تعبير.
فالفيلسوف الفرنسي فولتير -الذي ظهر اسمه كمدافع عن حرية الرأي بعد اعتداء باريس- لم يكن متسامحا مع اليهود.
اليوم لا يوجد أحد يريد أن يتذكر ما كتبه فولتير حول اليهود حين يقول (في "قاموس الفلسفة"): "كان اليهود مبعث الرعب والهول اللذين عانت منهما شعوب الأرض التي فتحت لهم قلوبها. كانوا دوماً يشوّهون الحقيقة -أيّ حقيقة- بأكاذيب تافهة لتحقيق غاياتهم وخدمة مطامعهم.
عُدْ إلى يهوذا -إلى تاريخ اليهود حينئذ- فستسمع جعجعة كريهة، أناشيدَ وموسيقى تدلّ على ذوق سقيم متوحّش...، لن تجد بين الشعب اليهودي سوى الجهلة المتوحشين الذين جُبلت طينتهم منذ قديم الزمن على أحطّ وسائل الارتزاق الجشع وأقذرها مع أكثر الخرافات مقتاً، بالإضافة إلى تأصّل بغضائهم -التي لا حدود لها- لجميع شعوب العالم التي احتضنت اليهود وصبرت عليهم، وكانت بالتالي سبب ثرائهم".
فولتير كان قاسيا ومتعصباً ضد الإسلام ورسوله (ص) مثلما كان متعصبا ضد اليهود. ومن الممكن لشخص ما أن يقول إن ما ورد أعلاه هو فكرة عابرة لفولتير حول اليهود ضمن كافة أعماله، ولكنه كتب مجددا -بعد عام من كتابته تلك الأفكار- حول "القضية اليهودية" قائلا: "لقد تجاوزتم كافة شعوب العالم بخرافاتكم القذرة، وبالأسلوب السيئ وبالبربرية. أنتم تستحقون العقاب، إن هذا هو قدركم".
إن هذا عداء واضح للسامية، ولا يمكن لأحد الدفاع عنه تحت مظلة حرية التعبير. ويبدو أن صحيفة "شارلي إيبدو" تحذو نفس المنهج.
ففي عام 2008 قام محرروها بفصل رسام الكاريكاتير موريس سينيت من عمله بدعوى العداء للسامية، لكتابته مقالة يقول فيها بشكل ساخر إن زواج ابن الرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي من سيدة يهودية واعتناقه الديانة اليهودية، سيؤهله للوصول إلى نقطة متقدمة في الحياة، أي أنه ربط بين اعتناق الديانة اليهودية والنجاح الاجتماعي.
وبغض النظر عن مدى السخرية في هذه المقالة، فإنها تمثل حالة من العداء للسامية. وبينما انتقد بعض المثقفين الفرنسيين قرار المجلة، إلا أن جماعة ضد العنصرية قامت برفع قضية على سينيت بتهمة آرائه المعادية للسامية.
إن موقف "شارلي إيبدو" ضد معاداة السامية موقف يستحق الإطراء؛ لكن لماذا لا يتم تطبيق نفس المبدأ على النقاش المتعلق بكراهية الإسلام؟ ففي النهاية، الخطاب المناهض للمسلمين والمبني على الكراهية للمسلمين مستند إلى التعصب والتمييز، تماما مثل العداء للسامية.
كما أن ذلك يؤدي إلى أعمال عنف كما شاهدنا في العديد من الحالات، بما فيها القنابل التي أحرقت الممتلكات، وأعمال القتل والنهب، وحوادث التمييز في ألمانيا وفرنسا والسويد واليونان وبلغاريا والولايات المتحدة وأماكن أخرى.
إن الكاريكاتيرات المتعلقة بالرسول محمد (ص) ليست ساخرة بل إنها تمثل تعصبا وعنصرية، وتستهدف القيم المقدسة للأقليات المسلمة في أوروبا. ولكن البعض يريد فقط أن ينتقد المسلمون الإرهاب وأن يعتذروا بسببه، ولكن عليهم -في نفس الوقت- ألا يرفعوا أصواتهم احتجاجا على التعصب الديني والتمييز ضدهم.
وأخيرا وليس آخرا، يجب تشهير خطاب الكراهية والعنصرية تماما كما يتم ذلك بالنسبة لإرهاب تنظيم القاعدة، ويجب على الزعماء المسلمين وممثلي المجتمع وعلماء الدين البارزين أن يؤدوا دورا قياديا في هذه العملية.
فبالرغم من أننا نكرر دوما أن الدين الإسلامي هو دين سلام وأنه لا يسمح بالعنف، فإن هنالك من يمارسون أعمال العنف باسم الإسلام. وتجب محاربة ذلك تماما مثلما تتم محاربة حركات الكراهية المناهضة للإسلام.
يوجد خلف الواجهة المتألقة -التي شاهدناها في مسيرة باريس- صورة مختلطة لاضمحلال التعددية الثقافية، وعدم الثقة في المجتمع، والعلمانية المتشددة، والعنف الثقافي، والتطرف الديني والإرهاب. وإن الحادث الذي شهدته باريس ليبرز بشكل واضح مدى هشاشة هذه المفاهيم في يومنا هذا.
إن مستقبل القارة القديمة بسكانها القدماء والجدد مرهون -إلى حد كبير- بالطريقة والمحتوى الذي سيتم التعاطي به. كما أن ذلك سيكون عملية مفصلية لتشكيل العلاقات الإسلامية/الغربية في القرن الـ21.
ومما لا شك فيه أن إدانة واحتواء الإرهاب هما أمران ضروريان لمنع وقوع هجمات إرهابية في المستقبل. ولكن المطلوب شيء أكثر من اتخاذ إجراءات أمنية فقط. المطلوب هو فضح العنصرية المترسخة على كافة الأصعدة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس