محمود عثمان - الأناضول

تركيا تكسر قيودها..

لئن كان تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه عام 1923، ووضع قطارها على سكة الديمقراطية بيد شهيد الديمقراطية عدنان مندريس عام 1950، وقيام تورغوت أوزال بوضع حجر أساس نهضتها الصناعية، فإن الفضل يعود للرئيس رجب طيب أردوغان في إبرازها قوة إقليمية رئيسية في المنطقة.

تميزت فترة السبعينيات ـ كما سبق وأسلفنا ـ بالحكومات الائتلافية والبازارات السياسية. فبلغ الانقسام والتشظي السياسي ذروته، وفشل السياسيون في إدارة الاقتصاد وتأمين الاحتياجات الضرورية للمواطن، فأصبحت طوابير الرز والسكر والزيت وأنبوبة الغاز جزءا من الحياة اليومية، كما انتشرت فوضى السلاح، والتصادمات الدامية في الشوارع والجامعات.

مع حلول عام 1980 وصل الاستعصاء السياسي ذروته. فقد بدأ ماراثون انتخاب رئيس الجمهورية في البرلمان بتاريخ 22 آذار / مارس 1980. وعقدت حتى 12 أيلول / سبتمبر يوم الانقلاب 114 جولة، لكن الأحزاب السياسية فشلت في التفاهم حول رئيس الجمهورية.

بتاريخ 6 أيلول / سبتمبر نظمت حركة "مللي جوروش" Mill Görüş مؤتمر القدس في مدينة قونية وسط البلاد، حضره ما يقارب مليون شخص، يومها اعتبره كثيرون، وفي مقدمتهم الصحافة، تحديا للجمهورية ومبادئها.

في الفترة نفسها ارتفعت وتيرة الاغتيالات السياسية التي طالت رئيس الوزراء الأسبق نهاد أريم، وعددا من النواب والشخصيات السياسية.

جميع ما سبق جعل الأجواء مهيأة والظروف مواتية لتدخل العسكر، ليأتي الجيش هذه المرة منقذا ومخلصا، بل ومرحبا به من قبل قطاع عريض من الشعب التركي، الذي كان يبحث عن الأمن والأمان بعد سنوات من الفوضى والقلاقل والاضطرابات.

بغض النظر عمن هو المسؤول عما آلت إليه البلاد من فوضى وفقر واضطرابات، السياسيون الذين فشلوا في وضع حد لخلافاتهم، أم الجيش وقوات الأمن التي لم تقم بواجبها بالتدخل بالشكل الكافي والمطلوب لإنهاء حالة الفوضى والانفلات الأمني، فقد تحرك الجيش صبيحة 12 أيلول / سبتمبر 1980 بقيادة رئيس الأركان كنعان أفرين، ومعه قادة القوات البرية والبحرية والجوية والجندرمة، وأعلن وضع يده على مقاليد السلطة.

الذي قام بالانقلاب هذه المرة الجيش بتراتيبيته العسكرية، وليس زمرة انقلابية فقط كما حدث في الانقلابات السابقة.

تميز انقلاب 1980 بالقسوة والدموية المفرطة، فقد حكم بالإعدام بحق 517 شخصا نفذ منها 50 حالة، ومات تحت التعذيب 171 شخصا، واعتقل 650 ألف مواطن، وتم وضع مليون و683 ألف مواطن تحت المراقبة (تفييش). كما فصل 30 ألف موظف من عمله، وهرب مثلهم خارج البلاد، وسحبت الجنسية التركية من 14 ألف مواطن، ومات 73 في ظروف غامضة، وانتحر 43 مواطنا.

كانت برقية "أولادنا نجحوا" المرسلة من الدبلوماسيين الأمريكان في أنقرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية، ليس فقط تشير بوضوح إلى علم واشنطن المسبق بالانقلاب، بل وترحيبها به أيضا.

صبيحة يوم الجمعة 12 أيلول / سبتمبر 1980، قام "مجلس الأمن الوطني" الذي شكله الانقلابيون بإعلان الأحكام العرفية في البلاد، وحل البرلمان، وتعليق العمل بالدستور، وإنهاء صلاحيات حكومة سليمان ديميريل، وإغلاق الأحزاب السياسية. وحظر جميع نشاطات منظمات المجتمع المدني، ما عدا جمعية رعاية الطفل.

** انتخابات 1983 الشعب يختار من جديد

انتخابات 1983 كانت الأولى بعد انقلاب 1980، حيث أجريت وفق قانون الانتخابات الجديد، الذي يشترط موافقة مجلس الأمن الوطني على 30 عضوا من مؤسسي الأحزاب السياسية على الأقل. كما تم سن قانون حاجز 10 % الذي يشترط حصول الحزب السياسي على 10 % فما فوق من مجموع أصوات الناخبين في عموم تركيا لكي يتسنى له دخول البرلمان.

صحيح أن قيادة الانقلاب سمحت بتأسيس الأحزاب السياسية، لكنها في المقابل منعت جميع قيادات الأحزاب السابقة ونواب البرلمان من أن يكونوا أعضاء مؤسسين في الأحزاب الجديدة، بل ذهبت أكثر من ذلك، عندما أعطت الجنرالات الخمسة الذين يشكلون مجلس الأمن الوطني الحق في منع (وضع فيتو) أي شخص من ممارسة العمل السياسي. بهذه الطريقة منع المئات من ممارسة السياسة.

كان حزب الديمقراطية الوطني برئاسة الجنرال "تورغوت صون ألب"، المدعوم من العسكر أول حزب سياسي حاز حق المشاركة في الانتخابات، ثم سمح لحزب الشعب الذي يمثل اليسار، ثم حزب الوطن الأم الذي كان يمثل يمين الوسط.

جرت انتخابات 1980 في أجواء سياسية رسم الانقلابيون معالمها بدقة. لكن رياحها جرت بعكس ما تشتهيه سفنهم. فقد حصد حزب الوطن الأم أغلب مقاعد البرلمان بنسبة 45.1 % بواقع 211 نائبا، تلاه حزب الشعب 30.5 % بواقع 117 نائبا، فيما حصل حزب الديمقراطية الوطني القريب من العسكر على 23.3 % بواقع 71 نائبا، إضافة إلى نائب مستقل واحد.

اللافت في انتخابات 1980 كانت نسبة المشاركة العالية التي بلغت 92.3 %. والغريب فيها أن الحزبين اللذين تأسسا بدعم من الانقلابيين، حزب الديمقراطية الوطني وحزب الشعب، تلاشيا ولم يعد لهما وجود في الحياة السياسية بعد بضع سنوات.

** حزب الوطن الأم: نهضة صناعية وعودة للإرادة الشعبية

سياسيا، نجح حزب الوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال في جمع فئات مختلفة يمينية ويسارية ومتدينة تحت مظلته، وتمكن بذلك من كسب شعبية واسعة.

اقتصاديا، اتبع أوزال نهجا ليبراليا منفتحا على الأسواق العالمية. قدم أوزال دعما كبيرا لقطاع الصناعة، ووجه الصناعيين نحو التصدير للأسواق الخارجية، وكان أول سياسي تركي يصطحب رجال الأعمال في أسفاره، فأصبحت سنة من بعده.

كان أوزال مولعا بالتكنولوجيا الحديثة، وقد بذل جهودا كبيرة في تحديث أجهزة الدولة وتجهيزها بأحدث المعدات.

اتبع أوزال سياسة الدعم اللامحدود للصادرات، فحقق الإنتاج قفزات كبيرة، دفعت الصناعيين الأتراك للانفتاح على الأسواق الخارجية من أجل كسب دعم الدولة في البداية، ثم ترسخت ثقافة الانفتاح بعد أن سحبت الدولة دعمها تدريجيا. 

كمثال على تطور الصادرات، فقد بلغت قيمة صادرات تركيا عام 1983 ما مجموعه 5727 ملايين دولار، فيما وصلت عام 1986 ما مجموعه 10190 ملايين دولار، أي بزيادة تعادل الضعف، خلال ثلاث سنوات فقط من حكم حزب الوطن الأم.

** انتخابات 1987 فرصة أخرى لأوزال مع عقوبة خفيفة

مع سياسة الانفتاح التي انتهجها أوزال، بدأت الضغوط تنهال عليه من أجل رفع الحظر عن قادة الأحزاب السياسية الذين منعهم الانقلابيون من ممارسة العمل السياسي.

بتاريخ 6 أيلول / سبتمبر 1987، أجري استفتاء شعبي دعا فيه حزب الوطن الأم للتصويت بلا، لكن النتيجة جاءت 50.16 % بنعم لجهة رفع الحظر عنهم. لكن بفارق ضئيل.

الداهية السياسي أوزال كان يعلم أنه من المستحيل مقاومة عودتهم، لكنه استغلها فرصة لإظهار أنهم جميعا بالكاد يساوونه سياسيا، وهذا ما ظهر في نتائج الاستفتاء.

في نوفمبر 1987 أجريت انتخابات برلمانية عامة. هبطت فيها شعبية حزب الوطن الأم، لكنه نجح في الحصول على نتيجة تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده. حصل حزب الوطن الأم على 36.3 % بواقع 292 مقعدا، فيما حل حزب الشعب الديمقراطي بقيادة أردال إيننو في المرتبة الثانية بنسبة 24.7 % بواقع 99 مقعدا، وحزب الطريق القويم بقيادة سليمان ديميريل على 19.1 % بواقع 59 مقعدا.

كان سليمان ديميريل الزعيم السياسي الوحيد الذي نجح حزبه في تخطي عتبة 10 %، فيما فشل في ذلك بقية الزعماء، أربكان وأجاويد وتوركاش الذين رفع الحظر عنهم. فقد حصل حزب اليسار الديمقراطي بزعامة أجاويد على 8.5 %، وحزب الرفاه بزعامة أربكان على 7 %، وحزب العمل القومي بزعامة توركاش على 3 %.

بعد عامين انتخب تورغوت أوزال رئيسا للجمهورية، وحل مكانه يلدرم أق بولوت في رئاسة الحزب والحكومة، ثم انتخب الحزب مسعود يلماز رئيسا له، ليبدأ العد التنازلي الذي أوصل الحزب إلى التلاشي والإغلاق.

** انتخابات 1991 أفول نجم حزب الوطن الأم

بعد انتخاب تورغوت أوزال رئيسا الجمهورية حدث خلل كبير في المعادلة السياسية. انتشرت عدوى العولمة، فبدأت نقابات العمال بسلسلة من الإضرابات، ونظمت نقابة عمال المعادن مسيرة ضخمة نحو العاصمة أنقرة، شارك فيها أكثر من 100 ألف عامل.

بعد انتخاب مسعود يلماز رئيسا لحزب الوطن الأم أصبح رئيسا للوزراء أيضا بحكم الدستور. طالبت أحزاب المعارضة بأن ينتخب الشعب رئيس الوزراء وليس الحزب، فاتخذ البرلمان قرارا بإجراء انتخابات مبكرة، نزل فيها حزب الوطن الأم إلى المرتبة الثانية، أول مرة منذ تأسيسه.

حصل حزب الطريق القويم على 27 % بواقع 178 نائبا، وحزب الوطن الأم على 24 % بواقع 115 نائبا، وحزب الشعب الديمقراطي على 20.8 % بواقع 88 نائبا، وحزب الرفاه على 16.9 % بواقع 62 نائبا، وحزب اليسار الديمقراطي على 10.7 % بواقع 7 نواب.

كانت بعض الأحزاب السياسية قد اتفقت فيما بينها على دخول الانتخابات معا، ثم انفصلت بعد دخولها البرلمان، ما زاد الطين بلة، وفاقم حالة التشظي السياسي في البلاد، فأصبح البرلمان يضم 8 أحزاب سياسية متشاكسة!

** انتخابات 1995 صعود التيار الإسلامي

استمرت حالة الانقسام والاستقطاب السياسي، وبدأ الشعب التركي بالبحث عن بديل لم يجرب من قبل، فطرق باب حزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي هذه المرة، حيث حل في المرتبة الأولى في سابقة لم تتكرر في تاريخه.

حصل حزب الرفاه على 21.4 % بواقع 158 نائبا، وحزب الوطن الأم على 19.7 % بواقع 132 نائبا، وحزب الطريق القويم على 19.2 % بواقع 135 نائبا، وحزب اليسار الديمقراطي على 14.6 % بواقع 76 نائبا، وحزب الشعب الجمهوري على 10.7 % بواقع 49 نائبا.

أعلن رئيس حزب الوطن الأم مسعود يلماز رفضه الدخول في حكومة ائتلافية يشكلها حزب الرفاه، الذي اتفق مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو جيلار مقابل تنازلات لا تتناسب مع الوزن السياسي لكل منهما، ورغم الإرث الاقتصادي الثقيل الذي تسببت به حكومة تانسو جيلار عام 1994، حيث عاشت البلاد كارثة اقتصادية أدت إلى هبوط قيمة الليرة التركية إلى النصف، رغم ذلك كله شكل البرفسور نجم الدين أربكان الحكومة، وسارت الأمور على أفضل مما كان متوقعا.

خاب ظن بعض القوى في الداخل والخارج التي راهنت على فشل الحكومة وسقوطها بنفسها. فعملت تلك القوى لتحريك الشارع من خلال عصيان نقابات العمال، وإبراز جماعة دينية لعبت دورا مشبوها، ليمهد هؤلاء الطريق أمام تدخل المؤسسة العسكرية التي أرسلت رتلا من الدبابات يجوب شوارع سنجان قضاء أنقرة.

بتاريخ 28 شباط / فبراير اجتمع مجلس الأمن الوطني الذي كانت كلمة الفصل فيه للعسكر.

استمر الاجتماع ست ساعات، بالكاد سمح فيه لرئيس الوزراء بأداء فريضة الصلاة.

وضع العسكر أمام رئيس الحكومة ستة شروط، كانت تعني نهاية حكومته الائتلافية.

كان عام 1997 حافلا بالأحدات التاريخية المتسارعة.

بتاريخ 21 أيار / مايو 1997 رفع المدعي العام دعوى بإغلاق حزب الرفاه. وفي 18 حزيران / يونيو قدم أربكان استقالة حكومته، وفي 21 حزيران / يونيو ألقى رجب طيب أردوغان خطبته الشهيرة في مدينة سيرت، وقرأ فيها الشعر الذي تسبب في دخوله السجن.

لكن الحدث الأبرز كان تكليف الرئيس سليمان ديميريل مسعود يلماظ بتشكيل الحكومة، بدلا من تانسو جيلار الذي كان حزبها في المرتبة الثانية، مخالفا بذلك الأعراف السياسية المتبعة في تركيا.

** انتخابات 1999 استمرار حالة الانقسام السياسي

شكلت عملية القبض على الإرهابي عبد الله أوجلان زعيم مليشيا PKK، وإحضاره إلى تركيا بتاريخ 16 شباط / فبراير 1999، الحدث الأبرز الذي انعكس على نتائج الانتخابات التي أجريت في 18 نيسان /أبريل من نفس العام، فاحتل حزب اليسار الديمقراطي المركز الأول بنسبة 28.2 % بواقع 136 نائبا، ثم حزب الحركة القومية بـ 18 % بواقع 129 نائبا، ثم حزب الفضيلة الذي أخذ مكان حزب الرفاه بـ 15.4 % بواقع 111 نائبا، ثم حزب الوطن الأم بـ 13.2 % بواقع 86 نائبا، ثم حزب الطريق القويم بـ 12 % بواقع 12 نائبا، فالمستقلون بـ 0.9 % بواقع 3 نواب. فيما توزعت 18.3 % من أصوات الناخبين على بقية الأحزاب.

كنتيجة طبيعية لحالة الانقسام والتشظي السياسي، فقد فشل بولنت أجاويد الذي كان يعاني من المرض والمشاكل الصحية، في تشكيل حكومة ائتلافية، واضطر إلى تشكيل حكومة أقلية قادت البلاد إلى كارثة اقتصادية كلفت خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار، وهبطت قيمة العملة إلى النصف.

يومها لم يدر في خلد أحد أن تلك الرزايا كانت إرهاصات لولادة تيار سياسي جديد (حزب العدالة والتنمية)، سوف يخرج البلاد من أزمتها، ويقودها إلى بر الأمان، بل ويجعل ترتيبها 16 في مصاف الدول المتقدمة حضاريا.

ساعات قليلة تفصلنا عن استحقاق انتخابي تاريخي مفصلي. عودنا الشعب التركي دائما على تحكيم العقل، ورجاحة الاختيار، وإعادة الأمور إلى نصابها كلما اشتدت المحن.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس