د. علي حسين باكير - القبس الإلكتروني

قال الشعب التركي الأحد كلمته في واحدة من أهم المعارك الانتخابية التي جرت في تاريخ الجمهورية التركية، حيث ادلى أكثر من ٥١ مليون ناخب من أصل ٥٦ مليون بأصواتهم لاختيار أول رئيس جمهورية لهم في النظام السياسي الرئاسي الجديد، وذلك بموازاة اختيار ممثّليهم من الأحزاب السياسية في البرلمان الجديد الذي سيمثل السلطة التشريعية في البلاد في السنوات الخمس المقبلة.

على صعيد الانتخابات الرئاسية، الغالبية العظمى من استطلاعات الرأي كانت تشير الى أنّ أردوغان سيفوز في نهاية المطاف سواء في الجولة الأولى او الثانية. وبالفعل، استطاع مرشّح حزب العدالة والتنمية أن يحسم المعركة من خلال الجولة الأولى بواقع حوالي ٥٢.٤٪ من الأصوات متقدماً بذلك على أقرب منافسه بفارق يزيد على ٢٠٪، إذ حصل محرّم إنجة، مرشّح حزب الشعب الجمهوري -أكبر أحزاب المعارضة – على ٣٠.٨٪ من الأصوات مقابل ٨.٣٪ لمرشّح حزب الشعوب الديموقراطية الكردي صلاح الدين ديميرتاش، و٧.٤٪ لميرال أكشينار، مرشّحة حزب إيّي.

لقد أعفى حسم المعركة الانتخابية الرئاسية من الجولة الأولى البلاد من التكاليف الباهظة التي كان من المتوقع أن تدفعها في مثل هذا السيناريو لا سيما من الناحية الاقتصادية وفي ظل حالة استثنائية من التنافس والاستقطاب السياسي. عكست النتيجة الحالية تفوقاً حاسماً لأردوغان في صراع الزعامات الجاري في البلاد الأمر الذي سيتيح له البقاء 5 أعوام على الأقل، وفق النظام الجديد الذي يتيح للمرشح خوض ولايتين.

في المقابل، فقد أدّى مرشّح الحزب الجمهوري أداءً جيّداً لكنّه ظل دون المستوى المطلوب لانتزاع الرئاسة. ومن المفارقة في هذا المجال أنّ النسبة التي حصل عليها محرّم إنجة (٣٠.٨٪) فاقت تلك التي حصل عليها حزبه (%22.6) ومن المنتظر ان يؤدي ذلك الى التشكيك بجدوى تزعّم كيليتشدار اوغلو لحزب الشعب الجمهوري في المرحلة القادمة بدلاً من إنجة.

أمّا في ما يتعلق بالمرشحين الآخرين، فقد كانوا دون المستوى تماما. النسبة التي حصل عليها مرشّح حزب الشعوب الديموقراطية أقل من المتوقع، وهذا يعني أنّ شريحة من الاكراد ربما قررت ان تصوّت الى مرشّح آخر على اعتبار أنّ لا فائدة من التصويت لمرشح كان قد خسر الانتخابات الرئاسية الأولى قبل أربع سنوات، وهو الامر الذي استفاد منه على الأرجح محرم إنجة وأردوغان. كذلك جاء أداء ميرال أكشينار أقل ممّا كانت تبشّر به الاستطلاعات أو التوقعات. وفي حالة أكشينار بالتحديد، بدا أن هناك تضخيماً في وسائل الاعلام الغربية لحجمها ودورها المستقبلي.

نتائج الانتخابات البرلمانية

على صعيد الانتخابات البرلمانية، يبدو ان البرلمان الجديد سيكون البرلمان الأكثر تنوعاً لناحية التوجهات السياسية وعدد الأحزاب، إذ تأهّل الى البرلمان خمسة أحزاب. وكما عرضنا سابقا في القبس، فقد كانت التوقعات تشير الى انّ خسارة حزب العدالة والتنمية للأغلبية المطلقة هو الأرجح، وفي نهاية المطاف هذا ما حصل بالفعل مع حصوله على حوالي ٤٢.٥٪ من الأصوات أو ما يساوي ٢٩٥ مقعداً من أصل ٦٠٠ مجموع مقاعد البرلمان الجديد. لكن النجاح الكبير الذي حققه حزب الحركة القومية المتحالف مع حزب العدالة والتنمية ساهم في حفاظ التحالف على أغلبية برلمانية، إذ حصل الحزب القومي على ١١.١٪، وهي نتيجة لم تكن متوقعة على الإطلاق على اعتبار انّ الحزب تعرّض لانشقاق وكان من المفترض بهذا الانشقاق أن يقلل من النسبة التي كان يتحصل عليها سابقا والبالغة حوالي ١٠٪، لكن هذا لم يحصل. بهذا المعنى فقد ثبت انّ الحسابات السياسية لأردوغان كانت صحيحة عندما تحالف مع هذا الحزب، كما اثبت حزب الحركة القومية انّه لا يزال متماسكا وأقوى مما كان عليه سابقا.

هناك ملاحظات عدّة مثيرة في ما يتعلق بنتائج الانتخابات البرلمانية، إذ إنّ أداء حزب الشعب الجمهوري تراجع نقاطاً عدّة عن الانتخابات السابقة، وذلك على الأرجح إمّا نتيجة عزوف شريحة مؤيدة له عن التصويت، وإما نتيجة تفضيل بعض ممّا كان يصوّتون له سابقاً بالتصويت لمصلحة حزب الشعوب الديموقراطية الكردي أو حزب إيّي القومي. وبهذا المعنى، فان تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب إيّي لم يكن مفيداً للطرف الاول.

إذا ما نظرنا الى النتائج التي حققها حزب الشعوب الديموقراطية الكردي، وحزب إيّي، سنلاحظ انّ هناك تضخّما لحجم الأحزاب القوميّة في البلاد، وهذا مؤشر قد لا يكون إيجابيا إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه لاحقا. جميع الأحزاب القومية استطاعت تخطي عتبة العشرة في المئة في هذه الانتخابات. أضف الى ذلك، أنّ حزب الشعوب الديموقراطية الكردي حقق نسبة أعلى ممّا كانت لديه في الانتخابات السابقة بحوالي %1، وكذلك فعل حزب الحركة القومية. الشريحة القوميّة ذات التوجه اليميني والمتمثلة بحزبي إيّي والحركة القومية، تضاعفت في هذه الانتخابات أيضاً، ووصلت نسبتها مجتمعة الى حوالي %21.1، وهو مؤشر على تحوّل في توجّه المجتمع التركي. ربما يعطي هذا التحول طابعاً مؤقتاً، لكنّه سيتحوّل الى مشكلة اذا أخذ طابعاً طويل الأمد.

أبرز التحديات المنتظرة بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي

مع صدور نتائج الانتخابات يكون النظام السياسي في تركيا قد تحوّل قانونيا وعمليا بشكل كامل الى نظام رئاسي. لكن تطبيق هذا النظام سيحتاج الى بعض الوقت. متطلبات هذا النظام كان قد تمّ تنفيذها بعد استفتاء أبريل 2017، وجلّ المتطلبات سيتم استكمالها الآن. هذا يعني أنّنا سنكون أيضاً امام تحديات من نوع مختلف. النظام الجديد سيؤدي الى إلغاء رئاسة ومجلس الوزراء، ونقل الصلاحيات التنفيذية الى رئاسة الجمهورية وتخفيض عدد الوزارات الى ١٦ من خلال إلغاء ودمج بعض الوزارات، وهذا الأمر سيتطلب وقتاً وجهداً وقد يؤدي الى حالة من عدم الاستقرار في تدفق العمل في الوزارات المعنيّة الى حين الانتهاء تماماً من تنفيذ التغييرات.

بموازاة ذلك، سيتم انشاء عدد من المكاتب والهيئات واللجان الاستشارية التابعة لرئاسة الجمهورية، والتي ستتراوح مهمتها بين تقديم الدعم الفني واللوجستي والمشورة السياسية، وذلك بغرض تسهيل صناعة واتخاذ القرار من قبل رئاسة الجمهورية. من غير المعروف بعد كيف ستعمل هذه الهيئات الجديدة بالضبط وكيف سيتم اختيار الموظفين فيها. لكن الأكيد انّها ستكون بحاجة الى خبراء ومحترفين في مجال عملهم وهو امر سيبقى خاضعا للنقاش الى حين معرفة الأسماء التي من المفترض ان تلعب دوراً بارزاً في هذه الهيئات. سيكون هناك حاجة للتعامل مع جيش الموظفين البيروقراطيين الذين دخلوا في الكثير من المؤسسات في السنوات القليلة الماضية من دون التمتع بالكفاءة أو الخبرة اللازمة لتأدية واجبهم على أكمل وجه، ويعتبر هذا واحداً من التحديات المهمّة في إدارة الدولة.

احتواء الخاسرين

الأهم من كل ذلك، انّ هناك حاجة إلى أن يقوم المعسكر الرابح في الانتخابات باحتواء المعسكر الخاسر وذلك حرصاً على تهيئة الأرضية اللازمة لانطلاق النظام السياسي الجديد بشكل سلس ولإشعار الجميع بانّهم شركاء في هذا النظام السياسي وان لهم مصلحة فيه سرعان ما ستنعكس بشكل إيجابي عليهم، وهو واحد من اهم التحديات باعتقادي في المرحلة المقبلة، خاصّة ان الانظمة الرئاسية تميل الى ان تكون ذات طبيعة صفرية في ما يتعلق بالسلطة التنفيذية، وهو الامر الذي قد يخلق بعض المشاكل والعراقيل، خاصّة في البلدان التي يكون الخلاف فيها على التوجهات العامة الأساسية وليس على التفاصيل الفرعية.

على الصعيد البرلماني، اعتماد حزب العدالة والتنمية على حزب الحركة القومية لتأمين الأغلبية سيؤدي الى إعطاء دور اكبر لحزب الحركة القومية في الحياة السياسية، وقد لا يكون ذلك امراً إيجابيا على طول الخط، وقد يضع «العدالة والتنمية» في أحيان كثيرة في موقع الابتزاز. لذلك، فان هذا الامر يعد واحدا من التحديات المنتظرة التي سيكون على حزب العدالة والتنمية التعامل معها بذكاء، إمّا من خلال تأمين منشقين، أو من خلال إقامة تحالفات آنية بحسب المواضيعوالملفات المطروحة في البرلمان.

الوضع الاقتصادي

العامل الاقتصادي كان أحد أبرز العوامل التي دفعت باتجاه إقرار انتخابات مبكّرة وذلك في محاولة لكبح التراجع السريع الذي جرى في الأشهر الأخيرة لناحية ارتفاع نسبة التضخم وانخفاض قيمة العملة المحليّة. من المتوقع ان تعطي نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نوعاً من الاستقرار المؤقت في هذه المؤشرات لكن المفعول الآني لنتيجة الانتخابات سيتلاشى تدريجياً، وستعود التحديات الاقتصادية لتفرض نفسها مجدداً وبشكل سريع على النظام الجديد. سيكون هناك حاجة الى جذب المزيد من الاستثمارات الخارجية المباشرة والتي تشير الإحصائيات الى انخفاضها بنسبة ٢٢% في الأشهر الأربعة الأولى من عام ٢٠١٨ مقارنة بالعام الماضي، لكن التحدّي الأهم على المدى المتوسط والبعيد هو معالجة العجز المستعصي في الموازنة والعجز الكبير في الميزان التجاري بالإضافة الى المشاكل الهيكلية في الاقتصاد.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس