أحمد الهواس - خاص ترك برس

قبل الحديث عن إشكالية الصراع بين الناصرية والإسلام السياسي، دعونا نقرّ بأنّ المصطلحين غير دقيقين، فلا الناصرية تعبّر عن القومية العربية، ولم تنشأ حركة قومية باسم الناصرية، ولا الإسلام السياسي مصطلح صحيح، ولا يوجد شيء اسمه الإسلام السياسي بل السياسة في الإسلام، وهذا المصطلح مصطلح غربي باتَ يعني الحركات والجماعات والأحزاب التي ترى أنّ الإسلام دينٌ ودولة وليس دينًا فقط، وبات ينسحبُ أيضًا على الأحزاب التي تُنسب للإسلام وتعتمد العلمانية نظامًا للحكم، وتؤمن بالديمقراطية سبيلاً لذلك.

عُرف مصطلح الناصرية بعد رحيل عبد الناصر، وباتت الكلمة مدلولاً على معتنقي فكرة القومية العربية المؤيدين لنهج عبد الناصر.

تجربة عبد الناصر على مستوى الحكم فشلت أم أفشلت تظلّ تجربة بشرية قابلة للخطأ والصواب، وغير قابلة للكمال، وهي ليست دينًا إلهياً يُعبد في الأرض، بل إنّ تحويلها لطقس يشبه التعبد والتبتل إساءة إلى هذه التجربة حيث يتحول المؤمنون بها إلى فريقٍ معادٍ لكل من يختلف معهم في تقييم تلك التجربة أو دراسة تلك المرحلة.

إنّ من أشدّ الأخطاء التي ارتكبها خصوم الناصرية انشغالهم بتهم الخيانة، وأشدّ مصائب الناصريين انشغالهم باتهام خصومهم بالمؤامرة والعمالة، وأي قارئ هادئ لتلك المرحلة يجد أنّ ثمة تغييراتٌ طرأت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والمنطقة ليست استثناء، فلا بدّ أن تنزاح الإمبراطوريتان السابقتان "بريطانيا، وفرنسا" وتحل محلهما إمبراطويتان منتصرتان "أمريكا والاتحاد السوفياتي" فضلاً عن أنّ عبد الناصر يشبه غالبية جيله، وجيله يشبهه إلى حدّ بعيد باستثناء قلّة قليلة، فهو من جيل تربى في كنف الاحتلال وتشرّب من ثقافته، جيل خرج منذ مدة ليست بالطويلة من الحكم العثماني الذي ثار عليه أو تمّ استخدامه من قبل القوى الكبرى في الحرب العالمية الأولى، هذه التربية وتلك الوقائع جعلت هذا الجيل في غالبيته يرى فيما مضى تخلفاً، ويبحث عن التطور والتقدم على غرار المحتل، فضلاً عن نمو فكرة الدولة الوطنية بعد التقسيم الذي حصل عقب الحرب العالمية الأولى، وهذا أيضًا ربما يتحول لكابوس جديد تجاه الغرب إذا ما نجحت دولة من تلك الكيانات المقسّمة في تحقيق نجاح يتحول أنموذجاً يحتذى، فكان لا بدّ من جذب الجماهير بفكرة الوحدة العربية، بعد أن شغفت قبل ذلك بالقومية وكانت سببًا لاصطفاف العرب ضد العثمانيين فيما عُرف بالثورة العربية الكبرى!

لم يفلح الفريقان في التوصل لنقاطٍ مشتركة بما يخدم مصلحة الفريقين، وهنا الحديث يشمل دعاة تيار الأمة الإسلامية كفريق معادٍ أو خصم لتيار الأمة العربية، رغم ظهور عدد من المفكرين حاولوا التوفيق بين الطرحين، ولعل تجربة عادل حسين تبقى هي الأنضج، رغم أنّ من يدرس تجربة حسين يجد أنّها انتهت إلى نصرة التيار الإسلامي.

في التيارين ثمة اختلافات داخلية، أي في التكوين الفكري لكل تيار، حيث يبرز التيار الإسلامي داعياً لإحياء الخلافة الإسلامية "من غانا حتى فرغانا" لكنّ هذا الطرح يبدو عاطفياً أو أنّه حلمٌ صعب المنال في ظلّ الظروف الدولية التي جعلت العالم أقرب لمؤسسة تتحكم فيها قوى كبرى وعظمى، وتضع له أسس التعامل السياسي والاقتصادي والعلاقات الدولية وليس انتهاء بنظم التعليم والجيوش! ويستند أصحاب هذا الطرح – إمكانية عودة الدولة الإسلامية – على أنّ التجربة كانت واقعًا على الأرض حتى الحرب العالمية الأولى، وقابلية التحقق تكمن في أن مفهوم الأمة لدى المسلمين يقوم على فكرة الوحدة الشعورية، وأمام الصعوبات التي ذكرناها كان لا بدّ من البحث عن طرق ووسائل أخرى، كان للدكتور محمد عمارة رؤية واقعية في ذلك، حيث رأى أنّ منظمة التعاون الإسلامي يمكن أن تكون بديلاً عن ذلك، ولتكن أولى الخطوات نحو ذلك اقتصادية، وتنقّل للأفراد داخل هذا الفضاء، وصولاً إلى رأي سياسي جامع، وضرب مثالاً بذلك في الاتحاد الأوروبي، حيث حافظت كل دولة على خصوصيتها ولكنها انفتحت على محيطها الأوروبي.

نخلص مما سبق: أنّ رؤية التيار الإسلامي ليست واحدة، وإن كانت تنتهي في هدف واحد، ولعل أخطر قضية تعرض لها الإسلام في المئة عام الماضية تتلخص في أن الإسلام دين، وليس دينًا ودولة، وهذا الطرح الذي تبناه "علي عبد الرازق" في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، لم يدرس الإسلاميون الظروف التي دفعت بعبد الرازق إلى إصدار هذا الكتاب الذي أثار الرأي العام في وقته "1925" وأدّى لمحاكمته وفصله عن القضاء، ولم يقدّم الرجل إجابات شافية حتى وفاته، إلاّ ما تسرّب من أخبار أنّ الرجل تراجع عن تلك الأفكار، وقال: "كلمة ألقاها الشيطان في روعي"، ووصل به الأمر أن أنكر نسبة الكتاب له! بل إن الكتاب وصله عن طريق "طه حسين" وبعيدًا عمن كتب هذا العمل، فإنّ الحقيقة التي يهرب منها كثيرون أنّ الكتاب كان يصبّ في صالح القوى الكبرى في غياب نظام سياسي جامع للمسلمين بعد أن أنهى أتاتورك الخلافة 1924، وطالب بها سلطان مصر لنفسه، وقبل ذلك تمرّد الشريف حسين ضد الخلافة بوعد بريطاني بجعله خليفة على خلافة عربية، ولكن انتهى به المطاف لاجئاً خارج الحجاز بعد أن سيطرَ "آل سعود" على الحجاز بدعم بريطاني! هذه الفكرة "الإسلام دين وليس دولة وسياسة" أصبحت منهلاً لكل خصوم "السياسة في الإسلام" وصولاً إلى صك مصطلح فارغ لا معنى له عُرف بالإسلام السياسي!

في التيار الآخر ثمة رؤى قومية متباينة، وربما متصارعة، وليست الناصرية هي صاحبة الريادة في الدعوة، وإن كان يُحسب لها الريادة في الوصول للحكم والقيادة السياسية وإن كان من خلال الانقلابات العسكرية، لكنّ المفارقة أن سبب الوصول للحكم أو الانقلاب الذي بات فيما بعد "ثورة" لم يكن من خلال دفع جماهيري نحو "الوحدة العربية" بل لم تذكر في بيان انقلاب 1952 ولا حتى إحياءً للقومية العربية، بل كانت حركة مباركة كما وصفها منفذوها ردّا على فساد الملك، ثم أصبح شعار غسيل هزيمة عار النكبة "1948" سبيلاً لتهييج الجماهير، وبعد ذلك جاءت فكرة إحياء القومية العربية وشعارات حرية وحدة اشتراكية كمرتكز آيديولوجي للحكم، ولتتسق مع فكرة "الصراع العربي الصهيوني" أي أنّ الحاكم المتغلب بعد أن استقر له الأمر احتاج لآيديولوجيا للحكم، فضلاً عن عدو تجمع عليه الجماهير، فقدّمها بشكل فوقي بوصفها الفلسفة الجديدة للحكم!

الغريب في الأمر أن "عبد الناصر" لم يُعرف عنه أنّه تربى فكرياً في مدارس القومية العربية، أو كان من المتأثرين بروادها "أبناء المشرق العربي، ولا سيما من نصارى الشام" بل إن المفارقة أنّ عبد الناصر كان عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، فقد وجّه أحمد منصور في الحلقة الأولى في برنامج شاهد على العصر لجمال حمّاد كاتب بيان ثورة يوليو والمعروف بمؤرخ الثورة سؤالاً متعلقا حول دقة رواية جمعها من عدة مصادر تقول:

إنّ من أسسَ (تنظيم الضباط الأحرار) هو الصاغ "محمود لبيب" بين عامي 1943- 1948، الذي كان وكيل "حسن البنا" للشؤون العسكرية، فقد أسسَ هذا التنظيم ولم يكن أحد يملك الأسماء إلّا محمود لبيب، وحسن البنا، وبعد مقتل البنا في شباط/ فبراير 1949، مرضَ لبيب، وأرسل وهو على فراش الموت - 1949- لاثنين كي يسلمهما الأسماء، وهما عبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال عبد الناصر، حيث تخلف الأول، وحضر ناصر واستلم كافة أسماء الضباط في كافة صنوف الأسلحة. وذكر "أحمد منصور" كلاماً لـ"حسين حمودة" أنّ عبد الناصر قال لمحمود لبيب اسم "الضباط الأحرار أفضل حتى لا نلفت النظر للإخوان!". أكدّ "جمال حمّاد" الرواية وأضاف: التنظيم أسسه "البنا" وأوكل عليه "محمود لبيب" وكانت النواة من الإخوان وعبد الناصر بعد ذلك ضم إليه الكثيرين ومن اليساريين، وكان يقول نحتاج لأن نجمع وبعد ذلك نفرز...!

فضلاً عن أن عبد الناصر كان له علاقة متميزة بالشيوعيين، وقد ذكرت عدة مصادر أنّه كان عضوًا في حزب "حدتو" أي أنّ عبد الناصر لم يكن على علاقة بالفكر القومي، ولكنها – أي القومية العربية - كانت الفكرة الجاذبة للجماهير في تلك المرحلة، وتكاد تكون الشرعية التي من خلالها يمكن أن تتلاحم معها الجماهير العربية المشبّعة بالآمال، والمليئة بالانكسارات!

يبدو أن أساس الصراع بين الحكم – المتمثل بناصر – والإخوان شكل بداية الصدام الحقيقي بين القوميين والإسلاميين، لكنه في الواقع كان امتدادًا لصراع السلطة الحاكمة في مصر مع الإخوان منذ نشوء الحركة حتى الإطاحة بالملك، وكانت بعد الثورة شهر عسل قصير، ريثما تلتقط السلطة الجديدة أنفاسها لتعود بحرب أشرس، وكان لا بدّ من توسيع دائرة الخلاف، حتى لا يبدو بين سلطة وفئة من الشعب، بل بين تيارين يمكن أن يكون لكل تيار أنصار على امتداد الوطن العربي، ولهذا تمّ جرّ أصحاب التوجه القومي والمؤمنيين بالاشتراكية كنظامٍ اقتصادي واجتماعي لمعركة مع أصحاب التوجه الإسلامي بوصف الإسلام نظام حياة، نظام تمّ إبعاده  منذ نشوء دولة محمد علي أو ما يُعرف بالدولة الحديثة في مصر، والتي اتخذت من العلمنة أسلوبًا ومنهجًا في مؤسسات الحكم، حيث ترسّخ ذلك أيضًا في القضاء بعد الاحتلال البريطاني ونشوء المحاكم المختلطة، ومن ثم اعتماد القوانين الوضعية، لتنحصر القوانين الشرعية في الأحوال الشخصية!

معركة كان لا بدّ لكلّ طرف أن يثبت أحقيته أو مظلوميته فيها، فأراد عبد الناصر أن يثبتَ أحقية الأمة العربية بالنهضة، وأن الطرف الآخر تحركه أمريكا والأنظمة الرجعية، بل وصل به الأمر أن يطلب من الأزهر فتوى بكفر الإخوان وضلالهم!

في حين انعدم خطاب الإخوان فقد امتلأت بهم السجون، واقتصر خطابهم أو ما يظهر من خطابهم على مؤلفات تنشر بالسرّ، فقد ألغى عبد الناصر الحياة السياسية بعد 1954، وهذا الأمر لم يتأذ منه الإخوان فقط بل كل الأحزاب السياسية حتى المختلفة مع الإخوان من قبل مجيء انقلاب 1952!

صراع لم يكن بين القوميين والإسلاميين، بل كان صراعًا بين مؤسسة الحكم وأذرعها الخشنة صراع بين الدكتاتورية ودُعاة التبادل السلمي للسلطة أو المسيطرين على السلطة باسم الثورة، وبين من رأى في الثورة سبيلاً نحو الحرية وتكريس الديمقراطية، ولكن استطاع ناصر أن يحول تلك المعركة مع الإخوان إلى معركة بين التقدم والرجعية كما كان يصفها، وأن معركته ليست مع الإسلام، ولكن مع من يريد إعادة مصر إلى الوراء، والذين يمنعون العدالة الاجتماعية من خلال تطبيق الاشتراكية التي لا تتعارض مع قيم الإسلام حسب تعبيره!

صراع لم يتوقف عند حدود مصر، بل امتد فيما بعد للبلاد العربية التي تُحكم بالأنظمة القومية، سواء ذات المنهج الناصري أو المنهج القومي البعثي، وقد ناب الإخوان الكثير من المصائب اعتقالاً ونفياً وقتلاً فضلاً عن التشويه الذي مارسته الأنظمة العسكرية ذات التوجه القومي ضد الإخوان، تشويه بات ممنهجًا ومفروضًا على الشعب، سواء في التعليم أو في الإذاعات ووسائل الإعلام الموجه.

هذه المعركة ساهمت وما زالت بنكبات أصابت المنطقة العربية، لكنها لم تكن معركة متكافئة، ففي وقت حكمت فيه الأنظمة القومية لستة عقود أي منذ ظهور الدول العربية، لم يسمح للطرف الآخر بالحكم، وليس هذا فحسب بل لم يسمح له بالعمل السياسي، وهذا ما أدى بتلك الحركات لتعمل تحت الأرض، ونتيجة للظلم الواقع عليها فقد نتج عن ذلك تفسيرات وانشقاقات داخل التيار الإسلامي أدى لبروز حركات متشددة، تمّ استخدامها في الصراع القطبي بين أمريكا والسوفييت في سبعينيات القرن المنصرم، حيث وجدت ضالتها على أرض أفغانستان فتمّ استخدامها وقودًا في الحرب الدائرة بين القطبين، حرب أٌعطيت صفة جهادية لتكون سببًا في إنهاك السوفييت، قبل أن يضحمل الاتحاد السوفييتي وحلفه الاشتراكي نهائياً!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس