ربيع الحافظ - ترك برس

هل أفعال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه تركيا تمثل نشازاً في سياسة أمريكا؟

حجم الضرر الذي يمكن أن تسمح أمريكا بإنزاله بتركيا تفسره القيمة الاستراتيجية لتركيا يوم قبلتها أمريكا عضواً في ناديها (الناتو) من عام 1952. لم تكن الدولة الزراعية الفقيرة والمتأخرة والمنهكة في الحرب العالمية الأولى لم تكن بالنسبة لأمريكا أكثر من مساحة جغرافية متاخمة للاتحاد السوفييتي تنشئ عليها قواعدها العسكرية ومن جيش علماني انتزعت منه قيمه الفكرية وظيفته الضغط على الزناد في أي اتجاه يطلب منه.

أمريكا اصطحبت ذلك الجيش إلى حربها في كوريا في 1953 ليقاتل على أرض لا يعرفها ضد عدو لا خصومة له معه وبجانب حليف كان بالأمس عدوا لدوداً له، ذلك الجيش تغير اليوم وتغيرت قيادته واستعاد انتماءه ومثل تمرده على طلب أمريكا في 2003 غزو العراق من أرضه تتويجاً لعقيدته الجديدة.

حاجة أمريكا إلى تركيا لا تتطلب أكثر من حالة الدولة التي كانت في عام 1952 بل إن تركيا تلك أدت دورها المناط بها على أحسن وجه وفي أدق حقب الحرب الباردة التي انتهت. حاجة أمريكا إلى تركيا لا تتطلب أن يكون ترتيبها السادس اقتصاديا في أوروبا وأن يهبط التضخم من 60% إلى مستويات منخفضة ويتضاعف معدل دخل المواطن 10 أضعاف وتتضاعف المطارات والجامعات وإلى خدمة صحية مجانية في كل قرية وقمة جبل وشبكات طرق سريعة وأنفاق تشق جبالها وقطارات سريعة، هذا كله غير ضروري وزواله لا يضير.

بالتوازي، لا يروق لأوروبا العجوز انتقال أكبر مطار في العالم من أوروبا إلى مدينة إسطنبول وتحول الشباب في العالم النامي إلى جامعات تركيا على حساب جامعاتها العريقة ومثلها المستشفيات وأن تكون تركيا مارداً اقتصادياً على حدودها، هذا كله ليس شرطاً في علاقات الغرب مع حليفها الأطلسي تركيا.

نهضة تركيا (التي فضلت أمريكا "إسلامها" على "الإسلام العربي") لا تمثل مارداً أصوليا لواشنطن، ما تمثله هو تعافي منظومة دولة القانون والمؤسسات ومدنية المجتمع في المنطقة التي كانت على مدى 9 عقود المحضن الذي قضت فيه مجتمعات المنطقة نقاهة ثقافية وترميما للهوية بعد جراحة سايكس بيكو، هذه المجتمعات يراد لها إعادة تكوين على أسس مختلفة ضمن عملية إعادة هندسة اجتماعية شاملة للمنطقة لا يراد لتركيا أن تكون قاطرتها.

نظرة أمريكا إلى مجتمعات المنطقة تنسجم مع ما عبر عنه أعمدة الجاسوسية الإنكليزية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ومفاده أن الحرب لم تؤدِ غرضها الأعظم في الشرق الإسلامي هو الانتهاء من "المسألة الشرقية" (العنوان الذي أطلقه الغرب على معركته مع الشرق الإسلامي وتفكيك نظامه الإقليمي وبنيته الاجتماعية) وأن هذه المجتمعات أعادت إلى صدارتها نفس الواجهات السياسية والاجتماعية التي مثلت شارعها في المبعوثان العثماني.

بعبارة أخرى: إن حدثاً بحجم الحرب العالمية الأولى الذي أحدث أول تغيير في الخريطة السياسية للعالم منذ 6 قرون لم ينجح في إحداث تغيير اجتماعي ثقافي جراحي على الوجه الأكمل في المنطقة رغم دخول العلاقات العربية التركية (كنتيجة له) حقبة سبات ثقافي واجتماعي ومن ثم فإن المتغيرات السياسية والاجتماعية التي تخوضها تركيا تمثل انقلاباً في منحنى العلاقات العربية التركية.

نظرة النظم العربية إلى الواقع السياسي في المنطقة لا تختلف عن نظرة أوروبا له، فتركيا داخل البيت العربي مثلما كانت "مصر عبد الناصر" ومثلما كان "عراق صدام حسين" وأعلامها ترفع في الشوارع العربية بدل الأعلام العربية وأسماء قادتها تطلق على المواليد الجدد. الأهم من ذلك هو أن هذه الظواهر ليست صنيع ناشطين سياسيين أو إسلاميين وإنما هو عمل أبعد الناس عن المؤثرات السياسية وعن الإسلام الحركي وأقلهم بضاعة وأكثرهم تواضعاً في المجتمع.

هذا المشهد هو الذي يستشعر النظام العربي الخطر منه ويتراءى له أنه عودة للعثمانية رغم أن دولتها لم تكن تمثل منظومة دينية بقدر ما كانت أعرافاً اجتماعية استلت من الحضارة الإسلامية ونظاماً سياسياً حافظ على خصوصيات مجتمعات المنطقة وهو الذي تنادي به شعوب المنطقة بعدما تمزقت مجتمعاتها وانهارت دولها وتجده في تركيا.

يجدر بالذكر أن مفاهيم العثمانية (هذه) لا حضور لها في السياسة الخارجية لتركيا أو في أحاديث منظريها ولا تجد مؤسسات الفكر التركية رغبة في الاستثمار فيها وتمارس عوضاً عنها الزهد السياسي والحساسية الإقليمية المفرطة، في المقابل فإن ظاهرة الالتئام الثقافي والاجتماعي العربي ـ التركي في المحيط العربي لا تشرف عليها مدرسة سياسية أو فكرية أو منظمة ما إنما هي ظاهرة شعبية عفوية أوجدها تحول فكري عميق لدى الإنسان العربي يتقدم فيه النسب القيمي على النسب القومي.

كل ما يحدث في تركيا يعكر المزاج الرسمي الإقليمي (العربي والإيراني) والدولي وكل شيء في الاتجاه المعاكس يحظى بدعمه. الانقلاب الاقتصادي الذي أخذ شكل مهاجمة أمريكا للصادرات التركية والمضاربة على العملة التركية من قبل أنظمة عربية لم يحمل مفاجأة وسبقه الانقلاب القضائي في 2013 والانقلاب العسكري في 2016 ومثلها المال العربي الرسمي المتدفق على المؤسسات والأحزاب المناهضة للحكومة التركية والسلاح الأمريكي الذي يغدق على المنظمات المعادية لتركيا والمؤتمرات المدفوعة الثمن في لندن وأصابع إيران التي تحرك الأقليات الطائفية داخل تركيا وفي محيطها.

للمشهد الإقليمي الراهن عنوان هو: لا مكان لتركيا المؤسسات في محيط هو من حصة المليشيات، لا مكان لاقتصاد الدولة في محيط السوق السوداء وتهريب الثروات الطبيعية، لا مكان لمجتمع الأغلبية والتعددية الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية وسط كيانات الأقليات، لا مكان للافتة الإسلام الحضارية أمام لافتة الطائفية.

لا ضير في أن تذهب تركيا بنظامها السياسي الحالي ومعه الرخاء والاستقرار ويؤوب الفاشلون ومعهم الاضطرابات وتبقى تركيا بالنسبة لأمريكا مجرد مساحة أرض لا أكثر تضع عليها قواعدها.


* اختارت BBC هذا المقال بنسخته الانكليزية المختلفة قليلا في 4/11/2013 كأحد أربعة مقالات تستحق القراءة في الصحف العالمية تختارها يوميا.

عن الكاتب

ربيع الحافظ

باحث وكاتب عراقي، متخصص في العلاقات الاستراتيجية العربية التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس