د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

كانت الخُطوة التي أقدم عليها زعيم تركيا مصطفى كمال أتاتورك عام 1928م بتغيير الحُروف العربيّة وإحلال اللاّتينية محلّها خطوةً استثنائيّة بكلّ المقاييس، ولاشكّ أنّه كان يُدرك تمام الإدراك ما تقتضيه هذه العمليّة من جهود جبّارة ومن إمكانيات كبيرة، وكذلك ما سيتولّد عنها من تداعيات على صعيد الهويّة التركية وعلاقة تركيا بإرث ثقافي ضخم يمتد لمئات السّنين، وتداعيات ذلك أيضا على علاقاتها بمحيطها العربي والإسلامي. لقد مثلت هذه "الثّورة" أو هذا "الانقلاب" قطيعةً بين عَهدين؛ العهد العُثماني والعهد الجُمهوري، وقطيعةً بين جيلين؛ الجِيل القديم المحافظ والجِيل الجديد المنفتح على الحضارة الجديدة بخيرها وشرّها، وقطيعة بين ثقافتين؛ الثقافة الإسلاميّة التّقليدية والثّقافة الغربية المعاصرة.

لم يكن القرار الذي اتّخذته الحُكومة التّركية في بداية نوفمبر عام 1928م بتغيير الحرف العربي أمرًا يسيرًا، فقد تطلّب تنفيذه ضرورة توفر آلاف المعلّمين القادرين على تعليم الحروف الجديدة، وتطلب الأمر كذلك قوانين رادعة تقضي بإيقاف طباعة الصّحف والمجلات والكتب بالحروف العربيّة. فقد حرض مصطفى كمال أتاتورك بنفسه على التّنقل في مناطق واسعةٍ من تركيا لإقناع النّاس بجدوى تعلّم هذه الحُروف وفائدتها وبيان مساوئ الحُروف القديمة. وقد ذكرت صحيفة "فلسطين" الصّادرة بتاريخ 5 أكتوبر سنة 1928م خبرًا مفاده أنّ الغازي "يزور الآن شواطئ البحر الأسود ويقُوم بإلقاء الدّروس وعقد الامتحانات عن الحُروف الجديدة في كلّ ميناء ينزلُ فيه، وقد خطب في "سِينُوبْ" فقال: يجب أن تنسُوا الحُروف القَديمة". 

ولتحقيق هذه الغَاية انتشرت مدراس التّبشير بالحُروف اللاتينية في أنحاء تركيا انتشارًا عامًّا، حتى أنّ المقاهي والمحلاّت العموميّة أصبحت قاعاتٍ لتدريس الشّعب هذه الحروف. ولم يكن هذا "النّفير العام"، كما سمّته الصّحف التركية آنذاك عن رغبة الشّعب فيه بل نتيجة الدّعاية الهائلة التي قام بها مصطفى كمال وأصحابه والصّحافة المؤيّدة له. وقد بلغ من أمر هذه الصّحف أن خَصّصت مُعظم أعمدتها لتبشير القرّاء بالحُروف الجديدة ومبلغ فائدتها، وبنشر الأخبار الهامّة بالحُروف اللاّتينيّة،كما قامت باستبدال عناوينها المكتوبة بحروف عربية بعناوين مكتوبة بحروف لاتينيّة.  وأخذت جريدتا "مليت" و "جمهوريت" في نشر مقالاتهما الرّئيسيّة بهذه الحروف.  وأغرب ما في الأمر أن الحكومة التّركية بعد أن حَفرت خِطاب الغَازي مصطفى كمال الذي وجّهه إلى سُكّان اسطنبول يوم قدُومه إليها للمرّة الأولى بالحروف العربيّة، أقرّت نزع الخطاب وكِتابته بالحروف اللاّتينيّة. 

وبسبب هذا التّغيير المفاجئ وجد أغلب النّاس أنفسهم أمام رموز جديدة مبهمة لا قبل  لهم بفهمها، فتراجعت مبيعات الصّحف وكسدت سُوق الكُتب وأصبح النّاس لا يفهمون ما يدور حولهم من أحداث إلاّ بشقّ الأنفس. وقد رسمت صحيفة "فلسطين" الصادرة بتاريخ 4 يناير سنة 1929م، أي بعد شهرين من سريان قانون تغيير الحُروف صورةً قاتمة لهذا الواقع الجديد، وذكرت إحصائيّات عن معدّلات بيع الصّحف تُبيّن إلى أيّ مدى تراجعت مبيعاتها وكسدت سوقها فقد "كان مُعدّل طبع جرائد "جُموريت" و "مِلّيت" و "وَقت" و "أقشام" و اقدام" و "صُون سَاعت"، وهي الصّحف اليومية التي تصدر في الآستانة، قبل أن تَصدر بالحُروف اللاّتينية  بين 25 و 30 ألف نسخة في اليوم، فتدنّى  معدّل طبعها، بعد أن أخذت تصدر بهذه الحُروف إلى 15 ألف نسخة، مع زيادةٍ في عدد المرتّبين والمحرّرين والعُمّال والنّفقات عدا ثمن الحُروف". 

أمّا الصّحف التي تصدر في المدن الصّغرى فحدّث ولا حَرج، فقد عجزت عن استبدال حُروفها بالعربية بالحروف اللاّتينية لفَقرها فتوقّف منها عن الصّدور 24 جريدةً، وتمكّن بعضُها من استحضار بعض الحُروف اللاتينية فصدر بصفحتين بدلاً من أربع، ولكن كانت كثرة الأغلاط الإنشائية حائلةً دون قراءتها.  وقد جرى اِمتحان للموظفين ففاز به قسمٌ وسقط البَاقون، فأذاعت الحُكومة على هؤلاء بيانًا دعتهم فيه  إلى مواصلة الدّرس، ومن يرسب مرة أخـــرى يتم رفته لأنّ من كان هذا حاله فلا يَنتظر منه الوطن ولا الأمة فائدةً أو خيرًا. وقد وضعت الحكومة برنامجًا يقضي بأن لا يبقى في تركيا أمّيّا واحدًا حتى عام 1940م، بيد أن هذا البَرنامج لم يسعفه النّجاح.

أمّا تأثيرات تغيير الحروف العربية فقد كانت كبيرة جدّا على مستوى الهويّة الثّقافية التركيّة، حيث أصبح التّركي بعد سنوات قليلة من صدور القانون، وخصوصًا من الأجيال الجديدة غير قادرٍ على قراءة الصّحف والمجلاّت والكُتب المكتوبة بالحروف العربيّة، وتراجعت مبيعات الكتب وأُصيب باعتُها بخسائر جسيمة، وأصبح البَاعة لا يجرؤون على عرضها للجُمهور ، كما أنّ النّاس أصبحوا لا يهتمون بها.   وقد نقلت صحيفة "الجامعة العربية" الصّادرة بتاريخ 23 أكتوبر 1933م عن صحيفة ألمانيّة تصدر في "ليبزغ" مقتطفات من مقال مطوّل بعنوان "أزمة تركيا من الحروف اللاّتينيّة" جاء فيه أنّ الأتراك يُعانون أشدّ المعاناة  في موضوع تغيير الحُروف وإلغائها، وأنّهم يمرّون بأزمة فكرية وثقافيّة بسبب ذلك. فقد اقتضى الإصلاح الجديد في تغيير الحُروف أن عَمدت بعض الهيئات إلى تضيق الخِناق على الكتب القديمة بالحُروف العربية، وكانت النتيجة الحتمية لذلك أن أمست تركيا الحديثة بحاجة إلى آدابٍ جديدة، وهي الآن تُعاني أزمة هذه الحاجة.   وذكرت الصحيفة ضمن هذا المقال أنّ في الآستانة وحدها ما يقرب من مليوني كتاب أصبحت في حكم العدم، وقد بسط أصحاب المكاتب شَكواهم للحكومة وما كابدوه من النّفقات  في خسارتهم التي نُكبوا بها بالقَضاء على الحُروف العربيّة. 

إن التّغيير الذي أقدمت عليه الحكومة التركيّة لا تتوقّف تداعياته عند مسألة العجز عن قراءة الصّحف والمجلات، بل تتعدّاه إلى عجزهم عن قراءة القرآن وقراءة الكتب الدّينية التي ترسّخ هويتهم الإسلاميّة الضّاربة في عمق التّاريخ. ولذلك فقد فُهمت هذه الخطوة على أنّها سياسة مُمنهجة من قبل الحكومة لقطع صلة الشّعب التركي بماضيه وهويته الإسلاميّة، وقد ترسّخت هذه القناعة أكثر بسبب الخطوات الأخرى اللاّحقة التي تمثلت في تغيير لغة الأذان من العربيّة إلى التّركية، ومنع جميع مظاهر التّدين وفتح الباب على مصراعيه أمام موجات الثّقافة الغربيّة الغريبة عن الشّعب التركي المسلم. 

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس