د. علي المر - خاص ترك برس

إذا ذُكرت الهند والباكستان، تضع يدك على قلبك، ويذهب بك التفكير إلى آفاق بعيدة وأحداث خطيرة عاشتها شبه القارة الهندية، منذ نحو قرنين.

كانت شبه القارة الهندية، أمة واحدة. وفي منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1858م، خضعت المنطقة بأسرها للراج (أو حكم) بريطانيا، التي انسحبت منها، عام 1947، وتركتها أربع دول، الهند وباكستان والبنغال الشرقي (أو بنغلاديش) وبورما (ميانمار)، بينها ما بينها من العداء والضغينة، ما لا يمكن تقدير مداه أو التنبؤ بمآلاته.  

ولا ريب أن في تلك المنطقة المكتظة بنحو مليار ونصف مليار آدمي من السلاح ووسائل التدمير، وبخاصة في الهند والباكستان، ما يتناسب مع حجم الخلافات بينهما، وما يمكن أن يحيل الحياة فيهما إلى جحيم يأتي على كثير من هذا الكم البشري الهائل. فقط المنطقة بحاجة إلى قرار من جندي ثمل، أو زعيم قومي متهور مغرور بقوته، فيضغط على زناد مسدس صغير، يقتل جنديًا عبر الحدود في البلد الآخر، لتندلع حرب قد تتطور إلى حرب، شاملة، تستخدم فيها أسلحة الدمار الكيميائي والجرثومي وحتى النووي. فالبلدان مسلحان نوويًا ولا نستطيع معرفة ترسانة كل منهما، ولكنها مدمرة بكل المقاييس. والبلدان يعتبران أنفسهما ضدين لا يلتقيان، لا وجود لأحدهما بوجود الآخر!

ولقد دخلا نتيجة للعلاقة المريبة التي تربط البلدين في ثلاثة حروب كبيرة، منذ الاستقلال. في عامي 1947 و1965، كانتا بسبب مقاطعة كشمير التي تعتبرها الباكستان جزء منها، سيما أن 97% من سكانها مسلمون؛ بينما تعتبر الهند أن الجزء الذي يقع تحت سيطرتها، على الأقل، والذي يبلغ نحو ثلثي المقاطعة، جزء لا يتجزأ منها.

ومع أن البلدين توصلا إلى وقف لإطلاق النار، ووقعا اتفاقيات حسن جوار، إلا أن العلاقة المريبة بينهما أدت إلى إشعال حرب ثالثة، عام 1971، أشد خطرًا، أدت إلى تقسيم دولة الباكستان المسلمة إلى دولتين، بنغلاديش (التي كانت تعرف بباكستان الشرقية) وباكستان (التي كانت تسمى باكستان الغربية). وكان واضحًا من تسلسل أحداث تلك الحرب أن الهند هي التي بدأتها لكي تقسم الدولة الباكستانية، بمساعدة عملائها في باكستان الشرقية، ودعم دولي. ولقد نجحت في ذلك. وطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن تنشأ حالة من التنافس على التسلح، أدت إلى امتلاك الدولتين السلاح النووي وكانت الهند هي السباقة لامتلاك هذا السلاح الفتاك عام 1974.

ربما لم يكن الخوف من الباكستان هو السبب الحقيقي، أو الأول، الذي دفع الهند للتسلح النووي، فهنالك عدو آخر، متربص بالهند، أكبر من الباكستان وأكثر منه قوة وخطرًا، هو الصين، التي تنافسها في البقاء والهيمنة على وسط وشرقي القارة الآسيوية، والتي اختبرت أول سلاح نووي لها عام 1964، فكان طبيعيًا أن تتوجس الهند خوفًا من جارتها وعدوتها الكبرى الصين، وتعمل على خطاها لامتلاك السلاح النووي، وأن ينشأ نوع من تقارب المصالح، والعلاقات الاستراتيجية، بين الصين والباكستان، العدو التقليدي الآخر للهند، من باب عدو عدوي صديقي، لمواجهة القوة النووية الهندية التي تطورت بسرعة لتنشئ برنامجًا نوويًا واسعًا، وتبني ترسانة من نحو 200 سلاح نووي[i]؛ وفق تسلسل الوقائع التالية:   

في عام 1948 م: أصدرت الحكومة الهندية قانون الطاقة النووية. تلاه إنشاء لجنة للطاقة الذرية ومركزاً للبحوث النووية.

وفي عام 1949 م: أنشأت الهند إدارة للبحث عن الخامات النادرة (اليورانيوم والثوريوم).

وفي عام 1954 م: أنشأ الهنود مؤسسة الطاقة الذرية، ومركز بهابها النووي، نسبة للعالم الهندي الفيزيائي بهابها؛ الذي رأس المؤسسة في بداياتها، وكان له بصمات واضحة في مسارها.

وفي عام 1955 م: باشر الهنود في بناء أول مفاعل نووي بدعم فرنسي وبريطاني؛ دشن عام 1957. 

وفي عام 1956 م: باشروا ببناء محطة نووية، حصلوا عليها من كندا، بقدرة 40 مليون واط؛ ودشَّنوا مشروعاً لإنتاج الوقود النووي.

وفي عام 1957 م: بدأ الهنود تطوير إمكانياتهم لامتلاك تقنيات إنتاج البلوتونيوم المستخدم في السلاح النووي.

وفي عام 1961 م: باشروا بإنشاء أول مفاعل من صنع هندي، وكان من نوع كاندو كندي التصميم.

وفي عام 1961 م أيضاً: باشروا في بناء أول معمل لتكرير اليورانيوم المستنفد؛ لاستخلاص اليورانيوم- 235 والبلوتونيوم- 239، اللذين يستخدمان في صناعة القنابل النووية.

وفي عام 1964 م: أعلن بهابها، إثر تفجير الصين سلاحها النووي الأول: أن الهند ستكون قادرة على صنع سلاح نووي في غضون عام ونصف.

وفي عام 1965 م: وقعت الهند اتفاقية لإنشاء مفاعلين نوويين كنديين بقدرة 210 ميجا واط، لكل منهما؛ وبدعم من الولايات المتحدة؛ وفرنسا لاحقاً. 

وفي أيار/ مايو عام 1974 م: أجرت الهند أول اختبار نووي، وهو قنبلة بلوتونيوم- 239، قدرتها 15 كيل طن[ii]، لتصبح بذلك سادس دولة نووية معلنة في العالم.

وفي عام 1976 م: دخل الاتحاد السوفييتي على خط الدول الداعمة بقوة للبرنامج النووي الهندي.

وفي عام 1998 م: أجرت الهند سلسلة من 5 تجارب نووية: ثلاثة منها يوم 11 أيار/ مايو؛ وهي: قنبلة هيدروجينية، بقدرة 45 كيل طن؛ وقنبلتان انشطاريتان، بقدرة 10 و2 كيل طن؛ وثنتان يوم 13 أيار/ مايو: 0.5 و0.3 كيل طن. ولقد أثارت بذلك حفيظة الباكستان الدولة المسلمة المجاورة، كما سنرى لاحقًا.

وبدورها اهتمت الباكستان بالمجال النووي، مبكرًا، منذ خمسينيات القرن الماضي؛ واليوم، بعد ما يقرب من 60 عاماً، أصبحت هيئة الطاقة الذرية الباكستانية، من كبريات الهيئات العالمية المشابهة: تشغل: ما يزيد عن 60 مؤسسة ومعهداً وجامعة؛ يعمل فيها ما يقرب من 60 ألف موظف من تخصصات مختلفة؛ وتدير 4 محطات نووية لتوليد الكهرباء: ثنتان عاملتان، وواحدة تحت الإنشاء، والرابعة مخططة. كما تشغل مفاعلين نوويين بحثيين قرب مدينة إسلام آباد العاصمة. وتمتلك ترسانة عسكرية كبيرة قيل أنها تحوي 90 سلاحاً نووياً من أعيرة مختلفة. وفيما يلي أهم المحطات والمواقف التي شكلت قوة الدفع لهذا البرنامج المثير:

في عام 1964 م: شعرت الباكستان إثر قيام الصين باختبارها النووي الأول أن هذا الحدث سيحفز الهند، المنافس الاستراتيجي للصين في منطقة الهند الصينية، لتطوير قدرة نووية عسكرية خاصة، لتحقق بها عتبة الردع الاستراتيجي بين البلدين، وراحت تدرس إمكانية البدء في برنامج مواز للبرنامج النووي الهندي.

وفي عام 1965 م: أطلق ذو الفقار علي بوتو تصريحه الشهير: "على الباكستانيين أن يأكلوا العشب وأوراق الشجر لتطوير سلاحهم النووي إذا فعلت الهند ذلك."؛ وقام بتدشين مشروع مفاعل نووي بحثي يستخدم اليورانيوم المخصب بنسبة 90%، وبقدرة 5 ملايين واط في منطقة نيلور قرب إسلام أباد العاصمة. ولما أنجز نكص الأمريكان عن اتفاقية تشغيله، فشكلت الباكستان فريق عمل بقيادة الدكتور نور الدين غازي لتشغيله وبعد جهد جهيد نجح، وحفروا اسمه بمداد من ذهب على قطعة من الرخام، الأخضر، على جدار غرفة التشغيل، كتبوا عليها "في هذا اليوم 26 شباط/ فبراير 1972 نجح الدكتور نور الدين غازي وفريقه بتشغيل المفاعل النووي". لقد احتفوا بذلك لأن أي خطأ كان يمكن أن يفجر المفاعل، سيما أنه يستعمل وقودًا مخصبًا للدرجة التي تستخدم في القنابل الذرية. وبسبب الضغوط اضطرت باكستان لتحويل المفاعل للعمل بيورانيوم أقل تخصيبًا (20%) ولكن بقدرة أكبر (10 م. و).   

وفي عام 1971 م: شنت الهند الحرب التي قسمت بها الباكستان. ولقد ولد هذا الحدث، المريع، شعوراً مريراً لدى الباكستانيين، الذين رأوا أن أطرافاً دولية كثيرة قد أيدت الحرب وأنهم وقفوا وحدهم يواجهون مصيرهم. فتداعوا لحشد طاقاتهم، لإنتاج سلاحهم النووي. وكان من أكثر من ترك بصمات واضحة في هذا الجهد: ذو الفقار علي بوتو، الذي شغل الكثير من المناصب المتقدمة في الدولة الباكستانية، منها وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء ورئيساً للدولة؛ والدكتور منير أحمد خان، الذي شغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية، إبَّان تطوير البرنامج العسكري؛ والدكتور عبد القدير خان الذي يلقب بأبي القنبلة الذرية الباكستانية، والذي ترك بصمته في مجال تخصيب اليورانيوم للرتبة المناسبة لصناعة السلاح النووي. 

وفي كانون أول/ يناير 1972 م: تداعى الباكستانيون لعقد مؤتمر علمي سري، في مدينة مولتان، دعا فيه بوتو صراحةً العلماء الباكستانيين إلى تطوير سلاح نووي؛ وحدد لهم مهلة لذلك 5 سنوات.

وفي عام 1973 م: دشن الباكستانيون: محطتهم النووية الأولى، في مدينة كراتشي على شط بحر العرب، في أقصى الجنوب؛ وهي من صنع كندي، بقدرة 125 م و؛ وتعمل باليورانيوم العادي (غير المخصب) والماء الثقيل. ولكن هذه المحطة واجهت صعوبات في التزود بالوقود والتشغيل، حيث نكص المزود أيضًا، عن تزويد الجانب الباكستاني باليورانيوم، فظلت المحطة معطلة عدة سنوات، حتى تمكن الباكستانيون من إنتاج الوقود بأنفسهم، وشغلوها. ولم يثنهم ذلك عن الإعداد لبناء محطة نووية ثانية لإنتاج الكهرباء، بقدرة 300 م و، من صنع صيني ومشاركة باكستانية؛ ومن نوع المفاعلات الضاغطة، تستخدم اليورانيوم المنخفض التخصيب.

وفي 18 آب عام 1974 م: فجرت الهند قنبلتها النووية الأولى؛ فاجتمع مجلس الوزراء الباكستاني، في الشهر التالي، وأعلن عزم البلاد على تسريع برنامجهم الخاص بإنتاج السلاح النووي؛ والذي كان ينظر إليه حتى تلك اللحظة بحسبه جهداً احترازياً. وشكلت الحكومة الباكستانية فريق عمل علمي، سمي " مجموعة الواحة " نسبة إلى المدينة التي مارست المجموعة عملها فيها؛ وهي مدينة مشهورة بصناعة الذخائر العسكرية. ولقد حدد هدف المجموعة حصرياً في إنتاج السلاح النووي. وفي هذا الوقت أيضاً بدأ الباكستانيون العمل للحصول على اليورانيوم المخصب باتجاهين: الأول: تطوير معامل تخصيب اليورانيوم المحلية؛ والثاني: من خلال التعاقد مع فرنسا لتزويدهم بمعمل لتكرير اليورانيوم المستنفد لاستخلاص اليورانيوم-235 والبلوتونيوم-239 اللذان يستخدمان لصناعة القنابل الذرية. وبينما سار المسار الأول لتحقيق هدفه، نكصت فرنسا وامتنعت عن الوفاء بالتزامها، رغم أن كلفة المشروع كانت مدفوعة لها.

وفي عام 1975 م: بدأت الباكستان عملية تجنيد أعداد كبيرة من المهندسين للعمل في الطاقة الذرية؛ ومنهم عبد القدير خان، الذي كان يعمل في هولندا، قيل بطلب من الحكومة الباكستانية، لكسب الخبرة، والتحق ببلده ليساهم بجهده في تطوير برنامجه النووي.

وفي عام 1976 م: أنشأ الباكستانيون معملاً لتخصيب اليورانيوم، في مدينة كاهوتا، بجهودهم الذاتية، وبإشراف الدكتور خان. وشكلت هيئة الطاقة الذرية الباكستانية مجموعة عمل خاصة أنيط بها مهمة البحث عن مكان مناسب لإجراء الاختبارات النووية.

وفي 5 تموز/ يوليو 1977 م: أطاح انقلاب عسكري يقوده الفريق محمد ضياء الحق بحكومة السيد بوتو، الداعم القوي لبرنامج بلاده النووي؛ ووضع الأخير في السجن وتم إعدامه شنقاً. وكان واضحاً أن هذا الانقلاب جرى في سياق الجهود الدولية الرامية إلى إعاقة الجهود الباكستانية لتسريع البرنامج النووي؛ ولكن قائد الانقلاب لم يجد مناصاً، هو الآخر، من تبني هذا البرنامج، وأصبح من أكبر داعميه.

وفي شهر نيسان/ أبريل عام 1978 م: أنتج الباكستانيون أول كمية من اليورانيوم المخصب. وبعد أقل من شهرين، في شهر حزيران/ يونيو التالي، تنصلت فرنسا: من إنشاء مشروع معالجة الوقود المستنفد التي كانت قد تعاقدت مع الباكستان لإنشائه.

وفي عام 1980 م: أنشأ الباكستانيون معملاً، بلجيكي الصنع: لإنتاج الماء الثقيل؛ واستكملوا بناء الخلايا الحارة في معامل قدير خان لتخصيب اليورانيوم. وفي هذا العام أعلن الرئيس ضياء الحق عن كشف مؤامرة هندية-إسرائيلية، مدعومة من الولايات المتحدة، لتدمير المنشآت النووية الباكستانية الحساسة؛ وتم إلقاء القبض على شبكة تضم ثمانية عملاء سريين أثناء تخطيطهم لتنفيذ عملياتهم قرب المنشآت النووية في الأراضي الباكستانية.

وفي عام 1982 م: أصدر الرئيس ضياء الحق أوامره للعالم قدير خان بصنع سلاح نووي معتبر.

وفي شهر آذار/ مارس عام 1983 م: بدأ العلماء الباكستانيون تجارب تفجيرات باردة (باستخدام حواسيب فائقة القدرة)؛ مكَّنتهم من وضع تصاميم فعالة لتصغير الكتلة النووية الحرجة؛ وقبل انقضاء ذلك العام: أعلن قدير خان (في كانون الأول/ يناير) أن مَعْمَلَهُ قادر على تصنيع سلاح نووي، ما يفهم منه بالعرف الدبلوماسي: أنه قد صنعه فعلاً.

وفي 22 أيلول/ سبتمبر 1984 م: كشفت الباكستان مؤامرة أخرى، قيل بأنها من تدبير دبلوماسي أمريكي يعمل مع الهند وإسرائيل. وكان يقوم بتجميع معلومات عن المواقع النووية الباكستانية. ما دفع الجنرال ضياء الحق إلى إصدار تهديد علني باستخدام القوة النووية ضد الهند ومن يتعاون معها في هذا المسعى.

وفي الأعوام 1983 و1985 و1986 م: نجحت الباكستان سراً في اختبار أسلحة نووية (وفق تقارير نشرتها الاستخبارات الغربية). 

وفي عام 1988 م: قتل الرئيس ضياء الحق، في حادث مريب، دبر لمروحية كان يستقلها؛ قيل أنه نجم عن تفجير عبوة ناسفة مخبأة في صندوق، من السفارة الأمريكية، يحتوي على علب من عصير المانجا المحبب لدى الرئيس[iii].

وفي عام 1998 م: أجرت الهند تجاربها النووية الخمس، التي تحدثنا عنها آنفاً. ورفعت وتيرة تهديدها العسكري للباكستان. وهدد وزير دفاعها، جورج فرناند في حينه، باجتياح الباكستان، ومسحها من خريطة العالم؛ فقابلت باكستان التهديد بالتهديد، وأعلن رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف أن الباكستان ستقوم باختبارها النووي في قلب العاصمة الهندية دلهي إن هي أقدمت على أي حماقة عبر الحدود.

وبعد أسبوعين ( بتاريخ 28 أيار/ مايو) قامت باكستان بتفجير قنبلتها النووية الأولى؛ فتعرضت لضغوط دولية لثنيها عن تكرارها، غير أنها سارعت يوم  30 أيار/ مايو لاختبار 5 قنابل أخرى؛ ولقد راجت تكهنات إن كانت واحدة من هذه الاختبارات، على الأقل: تتعلق بسلاح هيدروجيني أم أنها جميعاً قنابل انشطارية وحسب.

تجربة نووية باكستانية تحت الأرض أحدثت ارتجاجاً كبيراً في الجبال

وفي 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1999 م: قام الجنرال في الجيش الباكستاني، برفيز مشرف بانقلاب عسكري أطاح بحكومة السيد نواز شريف، فيما فهم منه أنه تصفية حساب مع نواز شريف، الذي عمل على تطوير البرنامج النووي، وأمر بإجراء التفجيرات النووية.

وفي عام 2000 م: نجح الباكستانيون في تشغيل معمل لمعالجة الوقود النووي وفصل البلوتونيوم بجهد محلي؛ وهو المشروع الذي كانت قد استنكفت فرنسا عن تنفيذه كما بينا سابقًا.

وفي آذار/ مارس عام 2001 م: قام برفيز مشرف بالتحفظ على قدير خان (أبو القنبلة النووية) ووضع في السجن والإقامة الجبرية؛ فيما فهم منه أنه رضوخ لرغبات غربية. تلا ذلك في 11 أيلول/ سبتمبر من ذاك العام أحداث نيويورك، التي أسفرت عن تدمير برجي مركز التجارة العالمية؛ وما ترتب عليها من غزو أمريكا لأفغانستان الجارة والعمق الاستراتيجي لباكستان.

وفي 19/3/2005 م: أعلن الباكستانيون أن برنامجهم العسكري حقق ما يسمى عتبة الردع النووي، وأنهم أصبحوا في مأمن من أي تهديد خارجي، يستهدف بقاءهم دولة مستقلة ذات سيادة. ما فهم منه أنهم ربما نجحوا في اختبار قنابل استراتيجية، ربما هيدروجينية، رداً على ما يعتقد أن الهند قامت به عام 1998 م.

وفي عام 2006 م: دشن الباكستانيون مشروعاً لإنشاء محطة نووية جديدة، من صنع محلي، وبقدرة 300 م و.

وفي 18/8/ 2008 م: أرغمت مظاهرات عارمة قام بها الشعب الباكستاني الجنرال برفيز لتقديم استقالته بسبب ما قيل إنه يعرض الأمن الباكستاني للخطر، وبخاصة القوة النووية الباكستانية.

وفي المدة من 2008 إلى 2018: ظلت باكستان في حالة من الاضطراب السياسي، انتهت بسجن نواز شريف، قبل أسابيع بتهمة الفساد، وانتهى الحكم إلى عمران خان، رئيس الوزراء الحالي.

ومنذ أيام فقط، في عام 2019: بدأت المناوشات بين الهند والباكستان، عبر الحدود في كشمير، والتي كما قلنا يصعب التنبؤ بمآلاتها: هل ستظل محدودة مسيطر عليها أم ستتوسع وقد تشمل تدخلات خارجية لعلاقات استراتيجية مع هذا الطرف أو ذلك؟ مثل الصين التي ترى في الباكستان حليفًا استراتيجيًا يحاصر الهند ويضمن لها منفذًا على مياه بحر العرب والخليج العربي؟ أو تدخل من نوع صب الزيت على النار لتظل الحرب مستعرة ويحترق الطرفان في أتونها؟  وكذلك يصعب التنبؤ بآثارها ونوع السلاح الذي سوف يستخدم فيها: هل يبقى من النوع التقليدي أم يمتد إلى مخازن أسلحة الدمار الشامل والنووي في نهاية المطاف؟ 

بالتأكيد... إن من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذه الأسئلة، وما يتفرع منها. ولا بد أن تشتمل الإجابة على هامش كبير من الخطأ، كما لم يخل العرض السابق عن القدرات النووية لكلا البلدين من هامش ما من الخطأ. ولكن الشيء المؤكد أن هنالك قوى عالمية، تتصيد في الماء العكر، وحتى في الماء الزلال الذي لا خفاء فيه. وهي أكثر تربصًا، على المدى القريب، على الأقل، بالباكستان، وأكثر نكاية لها، كما بينا في السرد السابق. ولم تُخفِ عداءها لها في السنوات الأخيرة باتهامها علنًا بأنها لا تعمل ما يجب للحرب على ما يسمى الإرهاب. ويبقى السؤال: لماذا في هذا الوقت اندلعت شرارة الحرب؟

قبل أيام زار الأمير السعودي محمد بن سلمان ثلاث دول تحوز على السلاح النووي، الباكستان والهند والصين. وأعلن عن استثمارات بعشرات مليارات الدولارات. ولقد قيل إن هذه الزيارات تمت لتحسين صورته بعد قتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في سفارة بلاده في إسطنبول. وكان الأمير قد أعلن في وقت سابق أن بلاده سوف تنتج السلاح النووي إذا فعلت إيران ذلك. فهل يزور الأمير هذه البلدان وليس في خلده رغبة في استطلاع قابلية هذه الدول النووية الكبرى لتعاونٍ ما مع بلاده لتطوير برنامج نووي استراتيجي؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفهم أحداث الحدود والتصعيد بين الهند والباكستان؟ هل الباكستان هي من أقدمَ على قتل 40 من جنود الهند، قبل أسبوع فأشعلت نار الحرب؟ أم أن العملية مدبرة لخلط الأوراق، وجر البلدين إلى الصدام في حرب كارثية؟ وتنهي أحلام السعوديين في برنامج نووي استراتيجي؟ وربما الباكستان أيضًا التي لا يخفى أن الأطراف الدولية المعادية تسعى للإضرار بها وحتى تقسيمها ونزع سلاحها النووي؟ وهو كما قيل من دوافع الحرب في أفغانستان. وما الذي يجري في الباكستان منذ انقلاب برفيز مشرف قبل 20 عامًا، وانتهى بسجن مفجر السلاح النووي الباكستاني نواز شريف كما سجن صانعه قدير خان؟

ربما لا تهم المعنيين بالشأن الباكستاني والهندي مثل هذه الأسئلة والإجابة عليها، في هذا الوضع المتفجر، بقدر ما يهمهم معرفة، كيف ستتصرف الدولتان؟ هل تنساقان وراء ذلك الجندي الثمل أو الزعيم القومي المتهور؟ أم سترجحان المنطق والعقل في التعامل مع حالة خطيرة كهذه؟

لا شك أن الهند أكثر اندفاعًا نحو التصعيد. ولا شك أن الباكستان أكثر حذرًا وتعقلًا كما فُهِمَ من تصريحات المسؤولين في كلا البلدين، في الأيام الأخيرة. ولا شك أن الذين يروجون للحروب من الجنود الثمالى أو القوميين المندفعين، كثيرًا ما يتفاجؤون بأخطاء لم تكن في حسابهم عندما خططوا للحرب وسارعوا إلى إشعال فتيلها، كما عبر رئيس وزراء الباكستان، عمران خان، قبل يومين. وقد تمُنْى الهند فعلًا بهزيمة نكراء. ولكن الشيء الذي يبدو لنا أقل يقينًا، وينتابه الشك، هو كيف ستعالج الباكستان الموقف داخليًا؟ هل سيضمِّدون جراح خلافاتهم ويتصالحون مع أنفسهم؟ أم يستمرون حتى النهاية في صراعات حزبية لا نستطيع الجزم أن ليس لها جذور خارجية؟ هل سيفرَجُ عن نواز شريف، البطل القومي سابقًا، السجين حاليًا، ويُخَفَّفُ الضغط على المؤيدين له من حزب الرابطة الإسلامية وغيرها؟ أم يستمر التصعيد الداخلي المذموم وسط تصعيد خارجي محموم؟

كيف سيتصرف عمران خان، خليفة نواز شريف: بقوة مثل شريف حين هدد باختبار السلاح النووي في قلب دلهي ودفعها لوضع طبول الحرب على الرفوف، وسحب قواتها بعيدًا عن الحدود الباكستانية، ولم يَسْلم؟ أم مثل برفيز مشرف، الذي انقلب على مفجر القنبلة الذرية الإسلامية، كما يسميها الغربيون، وسجن صانعها قدير خان، لكي ينجو من العاصفة ولم يَنْجُ؟

وضع حساس يعيشه خان، بين لن يسلم ولن ينجو؛ وحالة تعيشها الباكستان، دقيقة حَرِجَةٌ حراجةَ السلاح النووي، وحراجةَ أن يكون في يد إسلامية. فهل تختط الدولة الباكستانية سياسة مستقلة عن التأثيرات الخارجية عمادها الصلح الأهلي إلى جانب القوة، فتنجو باكستان ويسلم خان. هذا ما نتوقعه وما نأمله، كي لا يخطر ببال أحد التفكير في بديل تفكيك باكستان ونزع سلاحها النووي.


[i] هذه معلومة أولية من كتاب " الذرة والحياة" للكاتب، أعد عام 2013. وربما تحتاج إلى تحديث.

[ii] أنظر الموقع الإلكتروني لملنتدى العربي للدفاع والتسليح.

[iii] قتل في هذا الحادث السفير الأمريكي في باكستان والذي كان قد توجه مع الرئيس ضياء الحق بطائرة مروحية لمعاينة مجموعة دبابات زودتها أميركا للجيش الباكستاني؛ وفهم أن السفير استخدم طعمًا لاستدراج الرئيس ضياء الحق، الذي كان حذرًا جدًا.

عن الكاتب

د. علي المر

المدير السابق للطاقة النووية في الأردن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس