إحسان الفقيه - التقرير

أردوغان رجل أصابه جنون العظمة.

أردوغان يعيش الدراما التركية.

أردوغان يمثل مشهدًا من حريم السلطان.

تلك بعض التعليقات الساخرة التي امتلأت بها الصحف والمواقع لدى بعض الدول، انطلقت بعدما استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مطلع هذا العام، وقد ارتدى حرسه الجمهوري (عددهم 16) ملابس تمثل 16 إمبراطورية أقامها الأتراك في الماضي منها الإمبراطورية العثمانية.

هذا الحدث الذي كان بالأساس اقتراحًا قدمته قيادة الحرس ووافقت عليه الرئاسة، وجد فيه معارضو أردوغان في الداخل وأعداؤه أيضًا في الخارج، مرتعًا خصبًا للنيل من الرجل الذي قفز بدولته خارج القفص، وصارت في عهده لاعبًا أساسًا في محيطه.

ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يستحضر فيها أردوغان جذوره العثمانية ويؤكد عليها، ما حدا بصحيفة واشنطن تايمز لأن تطلق عليه “العثماني الجديد”، وهو ما أثار جدلًا واسعًا في الداخل والخارج.

فأردوغان يؤكد على جذوره العثمانية بذلك المشهد الأسطوري الذي بثته وسائل الإعلام لهتاف الجيش التركي بالنشيد العسكري (المارش) العثماني لأول مرة بعد سقوط الدولة العثمانية:

أيها الجيش والجند المظفر

أيها الغنضفر إلى النصر

بيد درع وبيد خنجر

إلى الحدود أيها العسكر

لو كنا في البحر كله انتصار

في الألسنة تكبير الله أكبر

أيها الغضنفر إلى النصر

بيد درع وبيد خنجر

لو كنا في البحر كله انتصار

في الألسنة تكبير الله أكبر

الله أكبر الله أكبر

ليكن جيشنا دائمًا منتصرًا

لو كنا في البحر كله انتصار

في الألسنة تكبير الله أكبر

الله أكبر الله أكبر

ليكن جيشنا دائمًا منتصرًا

ويؤكد أردوغان على جذوره العثمانية عندما أعلن عن عزمه إدراج اللغة العثمانية في المدارس التركية كمادة إلزامية، وذلك تأكيدًا على توصيات مجلس شورى التعليم الوطني في اجتماعه الـ 19 في ديسمبر الماضي.

هذا التأكيد الأردوغاني على إحياء اللغة العثمانية سيتيح للدارسين مطالعة ما كتبه علماء الدولة العثمانية في العلوم الإسلامية كالفقه والتفسير والحديث وغيرها، ويربط الماضي بالحاضر، وهو الأمر الذي قابله العلمانيون برفض شديد، باعتباره يهدد المبادئ العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك، والذي قطع صلة الأتراك بتراثهم وحضارتهم، وأقرّ كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية.

ويؤكد أردوغان على جذوره العثمانية عندما أعلن عن رغبته في إقامة نظام اقتصادي قائم على المكسب الحلال العادل الحق، الذي كان موجودًا في التاريخ العثماني وعرف باسم "نظام الآخية".

نظام الآخية الذي يسعى أردوغان لاقتباسه وإحيائه، يعود إلى عهد العثمانيين والسلاجقة، ويعتمد على تأهيل الشعب في عدة مجالات مهنية كالتجارة والاقتصاد والفنون، بالإضافة إلى التنشئة الأخلاقية. فهو نظام ذو بعد إنتاجي وأخلاقي، أسسه محارب ومناضل يدعى “آخي أفران”، والذي اهتم بالتجار والمهنيين والصناع، بالإضافة لدوره العسكري.

ويسير نظام الآخية على مبادئ وتعاليم راقية أبرزها:

كن كريمًا طوال الوقت.

لتصبح مائدتك جاهزة دائمًا من أجل الضيوف.

افتح بابك دائمًا أمام القادمين.

حاول أن تغض النظر دائمًا.

املك يدك (لا تؤذ أحدًا).

املك لسانك.

والملاحظ على نظام الآخية الذي يسعى أردوغان لإحيائه، أنه يجمع بين منظومة القيم والأخلاق، ومنظومة الإنتاج والفاعلية، وهما يشكلان بالإضافة إلى الهوية أساسًا لأي نهضة حضارية.

ويؤكد أردوغان على جذوره العثمانية أيضًا خارج الحدود التركية، فمن ذلك كلمته على هامش منتدى الأعمال التركي الكولومبي في العاصمة بوغوتا بمشاركة رئيس كولومبيا خوان مانويل في بدايات فبراير الحالي، حيث حرص أردوغان على الإشارة إلى أن العلاقة بين البلدين تعود على عهد الدولة العثمانية، وأنه كانت هناك علاقات دبلوماسية تربط الدولة العثمانية بتلك المنطقة.

وكان آخر هذه التأكيدات الأردوغانية على الجذور العثمانية، عملية “شاه فرات” وهي العملية العسكرية التي نفذتها القوات التركية لنقل رفات “سليمان شاه” جد مؤسس الدولة العثمانية، وحراس الضريح من الأراضي السورية.

نعم حملت العملية رسالة واضحة إلى إيران بأن تركيا موجودة بالمنطقة وعلى أهبة الاستعداد.

نعم حملت العملية رسالة واضحة إلى سوريا بأن تركيا قادرة على اللعب خارج الحدود، رغم أن العملية قانونية بمقتضى الاتفاقية التركية الفرنسية 1921، والتي تجعل من منطقة الضريح أرضًا ذات سيادة تركية ويرفع عليها العلم التركي.

نعم حملت العملية رسالة إلى كل الأطراف أن تركيا تدعم المعارضة السورية، وتعترف بها ممثلًا عن الشعب السوري، ويدل عليه أن العملية تمت بالتنسيق مع الثوار.

نعم كل هذا، لكن في الوقت ذاته يجد أردوغان في هذه العملية تأكيدًا قويًا على الجذور العثمانية، التي يسعى لأن تكون حاضرة في ذهن كل فرد وجماعة ومؤسسة تركية.

ولكن ما الذي تعنيه الجذور العثمانية في مشروع أردوغان؟

العودة إلى الجذور العثمانية يعني ضرب العلمانية الأتاتوركية التي رانت على الحياة التركية خلال عقود، لأن الدولة العثمانية ذات هوية إسلامية أضفت عليها صفة الخلافة، وهو ما شأنه أن يقضي على مظاهر العلمانية في تركيا.

والعودة إلى الجذور العثمانية يعني الارتباط بالعالم العربي الذي هو أساس العالم الإسلامي، بحيث تكون الدول العربية هي المجال الحيوي لتركيا أردوغان، وهو ما كان عليه العهد السابق أيام الدولة العثمانية.

والعودة إلى الجذور العثمانية يعني تعبئة الشعب التركي لمشروع نهضوي كبير، فكل مشروعات النهضة لابد لها من فكرة مركزية، يجتمع عليها الناس، وهي الهوية العثمانية الإسلامية في مشروع أردوغان.

لقد بات واضحًا أن الرجل يسعى لأن يتشبع كل تركي بالاعتزاز بتاريخ وحضارته، من أجل صبغة موحدة، وتجييش الشعب بأسره لإقامة نهضة تركية حديثة ذات أصالة.

والعودة إلى الجذور تعني التدشين لمشروع إقليمي تركي، لن نبالغ ونقول إنه إعادة للإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، لكن على الأقل سيقوم على تمدد النفوذ التركي في المنطقة وصنع تكتل قوي بقيادة تركية وبصبغة تركية.

لقد برع أردوغان في جذب الشعب التركي بهذا الاتجاه، في وقت وقع فيه الشعب بين تيارين، تيار علماني يريد طمس المعالم الحضارية للشعب التركي وقطع كل صلة له بجذوره، وتيار آخر يتزعمه فتح الله كولن، يسعى لتذويب ذلك الشعب في الحضارة الغربية بحجة التسامح وحوار الأديان.

فرأى الشعب التركي التواق للعزة والشرف، في هذا الاتجاه الأردوغاني شيئًا جديدًا يربط ماضيه بحاضره، ويمد آفاق الرقي والتقدم والحضارة أمام ناظريه.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس