د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

كلما كثر الحديث في أنقرة عن تقارب تركي أميركي بشأن أزمة شرق الفرات واحتمال الوصول إلى تفاهمات حول المنطقة الأمنة زاد حجم الغضب الروسي وتحركت موسكو بالتنسيق مع قوات النظام السوري للتصعيد على جبهة إدلب للعب ورقة المدنيين هناك ضد الأتراك.

المؤكد أيضا هو أن التصعيد الأمني المتواصل في مدينة إدلب السورية وجوارها أبعد من أن يكون نتيجة خروقات أمنية بين الأطراف المحلية الفاعلة على الأرض. هي لعبة التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة في المشهد السوري بعد فشل مؤتمر أستانة 12 وتراجع تنفيذ قرارات سوتشي التركية الروسية حول المنطقة العازلة وتأمين انتشار الدوريات المشتركة للبلدين هناك.

الانفجارات الأمنية الواسعة في إدلب كذلك أبعد من أن تكون فقط محاولة روسية للإيقاع بين أنقرة وحلفائها المحليين في المنطقة أو تجديد الموقف الروسي الرافض لفكرة قبول موسكو ودمشق لهيئة تحرير الشام بحلتها الجديدة.

ما الذي يدفع ببشار الجعفري مندوب النظام السوري لدى الأمم المتحدة ورئيس وفده في محادثات أستانا، للقول وهو يغادر اللقاء الثاني عشر في العاصمة الكازاخية إن "الاحتلال التركي أسوأ من الاحتلال الإسرائيلي" بأربع مرات، فيما يخص مساحة الأرض السورية التي تسيطر عليها كل من تركيا وإسرائيل؟ هل أصرار أنقرة على رفض أية عملية عسكرية برية واسعة في إدلب هو ما دفع الدبلوماسي السوري لتفجير غضبه على هذا النحو؟

خيبة أمل أخرى سورية كانت مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان تراهن عليها قبل أيام وهي تقول لنا إنه إذا ما نجح الروس والإيرانيون في الاستفادة من علاقتهم بتركيا في الملف السوري فإن دمشق ترحب بذلك. لكن هذا لم يحدث لأن أميركا دخلت مرة أخرى على الخط عبر إرسال موفدها الخاص جيمس جيفري إلى العاصمة التركية بهدف قلب الطاولة الروسية الإيرانية مجدداً.

كيف تكون أنقرة وموسكو شركاء في تفاهمات إدلب وجوارها ثم نرى كل هذا التصعيد العسكري واللجوء إلى استخدام سلاح الجو الروسي والسوري على السواء في غارات استهدفت المدنيين وأدت إلى موجات نزوح جديدة في المنطقة؟

ما الذي ستفعله تركيا أمام استمرار الخروقات الروسية الواسعة في المنطقة بالتنسيق مع قوات النظام السوري؟

هل أولوية أنقرة اليوم هي إنجاز تفاهمات شرق الفرات مع أميركا وإعلان المنطقة الآمنة وإبعاد مجموعات " قسد" عن مناطقها الحدودية وإخراجها من مدينة منبج لتعود بعدها وتتفاهم مع موسكو على موضوع إدلب وتل رفعت؟ وهل ستعطيها موسكو ما تريده دون أن تعرف كافة التفاصيل في شرق الفرات والخطط التي ستناقش تركيا وأميركيا هناك؟

كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إن مسار الأستانة هو الأنسب لخطط الحل والتسوية في سوريا، لكن العودة الأميركية السريعة فاجأ موسكو وأغضبها خصوصا وأن وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو يتحدث عن تفاهمات أميركية تركية جديدة شرق الفرات.

وكانت موسكو دائما تريد لعب ورقة التباعد التركي الإيراني والتركي الأميركي في سوريا لكن يبدو أن التصعيد الأميركي الإقليمي الأخير ضد طهران سيضعف الورقة الروسية وقد يقوي يد أنقرة إذا ما أعطتها ما تريده في المنطقة. تصلب أنقرة في رفض الخروقات الأمنية والإصرار على عرقلة تفعيل قرار الدوريات التركية الروسية المشتركة في المنطقة العازلة وتمسكها بخطة التسوية السياسية لأزمة "هيئة تحرير الشام " في إدلب، هو الذي شجع الروس على دعوة الجعفري لتفجير غضبه من الأستانا "النظام التركي لم يلتزم بتنفيذ تعهداته بإخراج التنظيمات الإرهابية من إدلب ولا باتفاق سوتشي حولها، ويستمر بدعم تنظيم جبهة النصرة الإرهابي". دمشق ونيابة عن موسكو تكشف النقاب عن أسباب التصعيد الأخير في إدلب ضد المدنيين.

فشل موسكو والنظام في الحصول على تعهدات تركية إضافية وتسريع العملية العسكرية التركية في إدلب ضد مجموعات النصرة والوصول إلى طريق مسدود في لقاء الأستانا هو الذي حرك الجبهات الميدانية في إدلب. الذي أغضب الروس أكثر هو أن واشنطن التي لم تكن موجودة أمام طاولة الأستانا نجحت في عرقلة التفاهمات هناك على حسابها وأعطت تركيا المزيد من الدعم للصمود في وجه الضغط الروسي الإيراني وهو ما أغضب الكرملين على هذا النحو الذي دفعه للانتقام من المدنيين وتحريك الطائرات والعودة إلى إسقاط البراميل المتفجرة من الهواء.

الخطر الأكبر بالنسبة لأنقرة سيكون التفاهم الأميركي الروسي في الملف السوري وتحديدا في موضوع مستقبل الأكراد السوريين والالتقاء حول خارطة مصالح مشتركة في الحرب على التنظيمات الإرهابية في شمال غرب سوريا لذلك هي تعرف أنها لن تصمد طويلاً أمام لعبة الإغراءات الأميركية والروسية المقدمة لها لأن هذه اللعبة نفسها قد لا تطول وقد تنعكس سلباً عليها.

مشكلة أنقرة قد تكون مرة أخرى حماية دبلوماسية إمساك العصا من الوسط: عدم الإفراط بالثقة فيما تقوله واشنطن التي سبق وتخلت عنها أكثر من مرة في سوريا وعدم إغضاب موسكو أكثر من ذلك في إدلب.

يردد البنتاغون أن القوات الأميركية ستبقى في سوريا لإكمال هزيمة داعش، وإخراج إيران وقواتها النظامية والميلشيات التابعة لها من هناك، وتحقيق حل سياسي بناء على القرار الدولي رقم 2254. لكنهم في الأساس هم يبحثون عن موازنة النفوذ الروسي في سوريا وترجيح أن تكون أنقرة إلى جانبهم وحتى إشعار آخر. لكن واشنطن أيضا لن تتريث كثيرا إذا ما شعرت أن الأتراك لن يعطوها ما تريده ولن تتردد في قرع أبواب موسكو كما فعلت قبل ساعات فقط في طرح طاولة تفاهمات الحل الثنائي في التعامل مع الأزمة الفنزويلية.

كلما رأينا تقاربا تركيا روسيا في سوريا فجرت موسكو الوضع على الأرض عبر تحريك أوراقها المحلية. وكلما تزايد التقارب التركي الروسي هناك شعرت واشنطن بخطورة ما يجري وحاولت الضغط على تركيا في الداخل والخارج لردعها عن المضي وراء الرهان على إغضاب حليفها الأميركي.

أنقرة تعرف أن موسكو قادرة على تحريك "وحدات حماية الشعب" في تل رفعت لمحاولة إفشال التفاهمات التركية الأميركية. لكن القصف التركي المدفعي والصاروخي المركز في الآونة الأخيرة لهذه المجموعات الكردية رسالة تركية لموسكو برفض أسلوب المغامرة والمقامرة إذا ما قرر الكرملين اللجوء إلى هذه الورقة.

آخر الأنباء الواردة من موسكو تتحدث عن تنسيق عسكري تقني واسع بين أنقرة وموسكو يشمل معدات عسكرية متطورة بينها تصنيع حربي مشترك لمروحيات وطائرات ومدرعات. عروض الإغراء الروسي مستمرة لمنع تركيا من الجلوس في الحضن الأميركي كما يقول الكثير من الخبراء الروس، لكن أنقرة أيضا تعرف أن ثمن إغضاب واشنطن أو القطيعة معها سيكون مكلفا.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس