د. محمد نور حمدان - خاص ترك برس

لا أحد يشكك بأهمية الدستور في بناء الدولة الحديثة بل لعل أهم وأول لبنة في بناء الدولة الحديثة هو وضع دستور عام للدولة تتبين فيه واجبات الحاكم وحقوقه وواجبات المواطنين وحقوقهم فالدستور هو الذي يحمي البلاد من الصراعات المسلحة الداخلية القبلية والطائفية والدينية ويجنبها الحروب الأهلية. فالصراعات إما أن تحل عن طريق السلاح أو عن طريق السلم والتراضي والسلم والتراضي طريقه الدستور وهذا ما أراد أن يعبر عنه جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي والذي يعتبر انجيل الثورة الفرنسية وذلك لأن الحقوق الاجتماعية تتزاحم بين الأطراف وهذه التزاحمات تؤدي إلى صراعات دائمة فالحل يكون عبر عقد اجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد يتنازل كل طرف عن بعض الحقوق ويعرف الواجبات المترتبة عليه والحقوق المترتبة له. وهذا ما فعله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مجتمع المدينة المنورة عندما أقبل عليها فأول عمل قام به بعد الهجرة هو كتابة وثيقة المدينة المنورة التي تعتبر من أقدم العقود السياسية بين الحاكم والمحكومين حيث وضحت الوثيقة حقوق وواجبات جميع الأطراف الموجودة في المدينة المنورة الأوس والخزرج وهم سكان المدينة الأصليين وقريش وهم سكان المدينة الوافدين واليهود الذين يعيشون في المدينة المنورة فكانت الوثيقة عبارة عن عهود التزم بها جميع الأطراف عن رضى وكان لها دور كبير في رسم ملاح تلك الدولة الجديدة وإنهاء حقبة طويلة من الصراعات القبلية في المدينة المنورة.

من الأسباب التي فجرت الثورة السورية هو عدم وجود دستور حقيقي للبلاد فالدستور كان موجودا في سوريا إلا أنه كان شكليا ولم يطبق بالإضافة إلى المواد المجحفة في هذا الدستور والذي أقر عام 1973 عندما استلم حافظ الأسد السلطة بشكل قهري وعسكري. فقد نص ذلك الدستور على احتكار السلطة بيد حزب العث العربي الاشتراكي في المادة الثامنة منه وكذلك النص على عدم محاسبة رجال الأمن والسلطة فكانت هذه المواد من الأسباب الرئيسية التي ثار عليها الشعب بعد أن بقي هذا الدستور سائدا قرابة أربعين سنة ولم تعدل أي مادة منه إلا في عام 2000 حيث كان التعديل الهزلي بخمس دقائق في عمر الرئيس وبعد أن كان عمر المرشح للرئاسة أربعين سنة تم التعديل ليصبح عمر الرئيس 34 سنة على مقاس بشار الأسد ولازلنا نذكر مطالبات الثوار في بداية الحراك السلمي بإصلاح النظام وتعديل مواد الدستور إلا أن النظام أصر بالحل العسكري والأمني وعندما اضطر إلى التعديلات الدستورية أصدر دستور عم 2012 إلا أن التعديلات التي كانت كانت تعديلات التفافية حيث ألغى المادة الثامنة تحت الضغط الشعبي وعدل من الدورات الرئاسية بحيث تضمن مدة بقائه بشكل أطول وألغى المواد التي تنص على عدم محاسبة رجال الأمن وأسس محكمة الإرهاب وعندما وجد الثوار أن هذا النظام غير قابل للإصلاح نادى بإسقاط النظام حتى تعاد بناء الدولة وتنظيم السلطات من جديد.

فوجود دستور عادل للشعب يضمن الحقوق والواجبات وتداول السلطة بشكل رسمي هو حق من حقوق الشعب السوري الذي ضحى بالغالي والنفيس وبكل ما يملك طوال سنوات الثورة ولا يكاد يوجد شعب ضحى كما ضحى الشعب السوري في معركة الحق والحرية والعدالة والكرمة فمن أبسط حقوقه على المجتمع الدولي الذي يدعي نصرة المظلوم والإنسانية أن يساعده في إيجاد هذا الدستور.

اليوم تتحدث الدول عن اللجنة الدستورية وعن تشكيل لجنة دستورية لا شك إن اللجنة الدستورية مهمة وإن أول طريق للحل والإصلاح هو تشكيل لجنة دستورية إلا أن هذه اللجنة لا بد أن تكون مختارة من الشعب الذي ضحى بكل ما يملك فإن تعذر الاختيار والانتخاب من الشعب فلا بد أن تكون هذه اللجنة من الخبراء والكفاءات والشخصيات التوافقية التي تكون مقبولة عند شريحة عريضة من المجتمع السوري لا نقل أن تكون اللجنة محاصصة بين الظام والمعارضة والمجتمع المدني بل تكون شخصيات توافقية من أبناء المجتمع السوري والتي عرفت بالنزاهة والكفاءة ولم تتلوث بتأييد الظلم والقتل والحلول الأمنية التي مارسها النظام المجرم طوال السنوات الماضية.

إن كان المجتمع الدولي صادقا بإيجاد مخرج ووضع حل للأزمة السورية كما يعبر يجب أن يؤسس لهيئة حكم انتقالي بعيدة عن رؤوس هذا النظام ثم يعتمد لجنة دستورية حقيقية معبرة عن إرادة الشعب أما أن تفرض الأسماء بين يوم وليلة بل وحتى الكثير من هذه الأسماء لا يعرف كيف تم اختياره فلا أمل بحل للأزمة السورية.

إن سورية أسست دستورا حديثا ومعاصرا وذات معايير دولية عام 1950 فليست المشكلة ببن المعارضة وبين النظام دستورية بل هي مشكلة ظلم وفساد واستبداد ومطالبة باستعادة الحقوق المسلوبة التي نهبها هذا النظام وكان سببا في تشريد عشرة ملايين سوري وتدمير معظم المدن والبنى التحتية السورية واستشهاد مئات الالاف من السوريين في كارثة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا.

إن الشعب السوري مقبل على تحد جديد ومعركة جيدة وهو تحدي الدستور وهذا الدستور الذي سيكتب سيرسم ملامح سوريا لعشرات السنوات لذلك يجب علينا أن نكون حذرين وواعين في هذه المعركة فالدستور سيحدد مصير أبنائنا والأجيال القادمة في سورية.     

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس