د. سمير صالحة - العربي الجديد

أثارت مذكرتا التفاهم التركية الليبية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين في البحر المتوسط، غضب مصر واليونان وإسرائيل، ودفعتا ثلاثتهم نحو تحرّك سريع لتنسيق المواقف والرد على هذه الخطوة التي قلبت الحسابات والتوازنات البحرية في المتوسط. وقد قيل إن طرابلس وأنقرة توصلتا إلى اتفاقية ببنود سرية، وإن انقرة تغتصب المياه الليبية والإقليمية لعدة دول متشاطئة في شرق المتوسط، وإن الحكومة الليبية تعطي ما هو ليس لها سياسيا وقانونيا على حساب سيادة ليبيا ووحدتها، غير أنها ساعات بعد هذا الكلام، وتكشف الحكومة التركية عن بنود مواد الاتفاق، وهي تقدمه للبرلمان، للمصادقة عليه، وهو يتضمن استعدادا تركيا ليبيا للتفاوض مع جميع الدول الراغبة في بحث تقاسم الثروات، وترسيم حدود شرق المتوسط المائية، على عكس الاتفاقيات التي تمت على حسابهما ومن دون إشراكهما فيها.

وتصادق حكومة الوفاق في طرابلس على الاتفاقية، على الرغم من الأصوات الداخلية المعترضة، لأنها تتم، كما تقول الحكومة الشرعية، بناء على المادة 19 من الاتفاق السياسي عام 2015 في توقيع اتفاقياتٍ من هذا النوع، تهدف إلى حماية حقوق الشعب الليبي ومصالحه. وهي ترد لليبيا أكثر من 17 ألف كلم مربع من حقوقها المائية المغتصبة، في محاولة ترسيم الحدود المائية الليبية اليونانية عام 2014. وتقول أنقرة إن الاتفاقية وقعت لتنفذ، وهي ستنفذ، وأن نظرية "الوطن الأزرق" التي أطلقتها في الأعوام الأخيرة، والهادفة إلى حماية حصتها ونفوذها المائي في المتوسط ستستمر. وذلك فيما كانت تركيا تتجنّب الدخول في اتفاقيات مائية، إلا أنها قرّرت، في أشهر قليلة، تغيير سياستها، وبدأت بقبرص التركية في ترسيم الحدود الثنائية المشتركة، لتواصل مع ليبيا الدولة المقابلة لها في جنوب المتوسط، باقتراح استراتيجي، أعده وقدمه أحد أهم قياداتها العسكرية البحرية، جهاد يايجي. والاتفاقية بإيجاز هي نقلة "كش ملك" تركية على رقعة الشطرنج المائية في نقطة تقاطع بحري إيجه والمتوسط هذه المرة، بانتظار مفاجآت أخرى باتجاه استراتيجي أوسع، ترفض القيادات السياسية التركية الكشف عنه.

وتتضمن الاتفاقية بالنسبة لأنقرة أكثر من بعد ومدلول، فهي عملية رد على اتفاقيات وتفاهمات متلاحقة بين دول متشاطئة شرق متوسطية، لترسيم الحدود المائية وتقاسم خطط ومشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه وبيعه، على حساب مصالح تركيا وحصتها، هي وشريكها القبرصي الشمالي. كما أن حصة تركيا المائية ستتوسع إلى حوالي 190 ألف كلم مربع، بالمقارنة مع ما كانت تطمح إليه اليونان في محاصرتها داخل بقعةٍ مائية لا تتجاوز 45 ألف كلم مربع. والاتفاقية رسالة جوابية إلى اليونان التي استغلت انتشار عشرات الجزر التي تضعها تحت سيادتها في بحري إيجه والمتوسط، وتساعدها على فرض سياسة ترسيم للحدود المائية هناك بالمعايير والمواصفات التي تناسبها مدعومة من الاتحاد الأوروبي، وتجاهل ما قالته أنقرة أكثر من مرة عن الوضعية الخاصة للبحرين. وثمة أيضا مواجهة تركيا محاولات القاهرة وإسرائيل واليونان في قيادة اصطفاف واضح ضدها في إطار إنشاء تكتل سباعي، انطلقت أعماله في مطلع العام الحالي، تحت عنوان "منتدى شرق المتوسط"، وتكون القاهرة مقرّا له، ويهدف إلى إخراج تركيا من المشهد في شرق المتوسط.

الغريب هنا أنه بدل أن تتحرك بعض العواصم العربية للترحيب باتفاقيةٍ استراتيجيةٍ من هذا  النوع، تحمي حقوق ليبيا المائية في جزءٍ مهم من المنطقة، تذهب باتجاهٍ آخر هو التصعيد ضد طرابلس، ودعوتها إلى التراجع عن الاتفاقية وعدم تطبيقها، ملوحةً بأنها حلقة في مخطط "تزويد الإرهابيين في ليبيا بالسلاح، والهيمنة على المياه الليبية الإقليمية والخيانة العظمى التي سيحاكم عليها بعضهم". أين كان هؤلاء عام 2014 للرد على اليونان التي حاولت محاصرة ليبيا، مستغلة الأزمة هناك، عبر محاولة فرض سيطرتها على المياه الإقليمية الليبية، وأعلنتها مياها إقليمية يونانية؟

المتضرر الأول والأكبر من مذكرتي التفاهم بين تركيا وليبيا حتما الاتحاد الأوروبي الذي كان يستغل التردّد التركي لصالح تكريس النفوذين، اليوناني والقبرصي، في بحري إيجه والمتوسط، واللذين كسبا لسنوات فرص التحرّك الاستراتيجي الإقليمي في مواجهة حرب النفوذين الأميركي والروسي على مصادر الطاقة هناك وخطوط نقلها.

المتضرر الثاني هو اليونان التي تعطلت كل أحلامها بفرض طوق مائي على دول شرق المتوسط، عبر اتفاقيات ثنائية، وقعتها مع قبرص اليونانية وإسرائيل ومصر ولبنان، مستغلة جزرها الصغيرة المتقدمة رأس حربة في المنطقة، تحاول من خلالها فرض خرائط لا تأخذ بالاعتبار قواعد قانون البحار وأسسه، والذي يؤكد حقوق أطول حدود برية لتركيا وأطول حدود بحرية لليبيا في المنطقة.

ليس فقط نقل الغاز القبرصي والإسرائيلي إلى أوروبا هو الذي سيزداد صعوبة، بل أيضا عمليات التنقيب عن هذه المادة واستخراجها. ولكن الصفعة الأقوى هي اصطدام خطط نيقوسيا وأثينا بعرض الحائط بعد توقيع اتفاقيات عديدة مع شركات طاقة عالمية أصبحت مسألة عبورها الممر المائي التركي الليبي شبه مستحيلة.

وقد جاءت المفاجأة الحقيقية من القاهرة التي كانت السباقة في الاعتراض على الاتفاقية الليبية التركية، حتى قبل أن تطلع على بنودها، زاعمة أنها تخالف الاتفاق السياسي الليبي الموقع في المغرب عام 2015، وحاولت الحشد والتعبئة، بالتنسيق مع اليونان، لتشكيل رأي عام دولي لرفض الاتفاقية، غير أن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قال لاحقا إن الاتفاق لا يمس مصالح مصر. هل هو تغير في الموقف المصري بعد الاطلاع على بنود الاتفاق وتفاصيله وخرائطه، أم إنها قناعة مصرية جديدة بما قالته الخارجية التركية إن سبب التصعيد هو الطروحات اليونانية ومحاولة منح جزيرة كاستيلوريزو (ميس)، وهي جزيرة صغيرة مقارنة بالبر الرئيسي التركي، سيادة بحرية بأربعة آلاف ضعف من مساحتها الحقيقية، متجاهلة الحدود البرية والبحرية الأطول لكل من تركيا وليبيا، خصوصا أن المناورة اليونانية أفقدت مصر حوالي 40 ألف كيلو متر مربع من حصتها المائية الحقيقية، ستستردها عبر دعم هذه الاتفاقية؟ هناك احتمال أن القيادة المصرية وصلت إلى قناعة استحالة تغيير ما أنجز، وأن التصعيد السياسي لن يؤثر على العقد القانوني التركي الليبي، المدعوم أميركيا، حيث اطّلعت واشنطن على ما يدور بين أنقرة وطرابلس في لقاءات تركية أميركية عقدت على هامش اجتماعات حلف شمال الأطلسي، وأعطت الضوء الأخضر بشأن الاتفاقية، لأنها تساهم في عرقلة التمدد الروسي البحري في شرق المتوسط.

أنهت الحكومة التركية خلال أيام فقط الجوانب القانونية لإقرار الاتفاقية المائية مع ليبيا، ونشر النص المتفق عليه بثلاث لغات، مع ملحقات وخرائط تحدّد الممر المائي بين البلدين. وأرسلت   نسخة مصدّقة من الاتفاقية إلى الامانة العامة للأمم المتحدة، لتأكيد مبدأ الشفافية والشراكة الدولية وقانونية ما جرى. وبعد ساعات على دخولها حيز التنفيذ، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن الاتفاقية "أفسدت اللعبة التي تحاك في المنطقة. ولكنه هناك اجتماعات تجري بين اليونان وإدارة قبرص اليونانية ومصر، وإسرائيل في بعض الأحيان. لعلم الجميع، ستواصل تركيا الدفاع عن حقوقها، وهي لم تشتر سفن التنقيب والمسح السيزمي عبثا".

وكان وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، قد قال إن بلاده جاهزة لإبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف مع جميع بلدان شرقي المتوسط، باستثناء قبرص اليونانية. كما صرح وزير الدفاع، خلوصي أكار، إن الاتفاقية ليست تهديدا لحدود الدول الأخرى أو مصالحها، والحل الأفضل هو تقاسم الثروات بين دول المنطقة بشكل عادل، وعلى أساس قانوني، لأننا لن نسمح بغير ذلك، ولأنه لا فرص لنجاح أية اتفاقية يحاول بعضهم فرضها على أنقرة... تركيا جاهزة للاحتمالين التهدئة والتصعيد، فأيهما ستختار الدول المتشاطئة في المتوسط ومن يدعمها؟

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس