د. سمير صالحة - العربي الجديد

قرّر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذهاب إلى مؤتمر برلين للجلوس أمام طاولة واحدة مع دول المحور الآخر في التعامل مع الملف الليبي. كان يعترض على مجالسة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لكنه اكتفى هذه المرّة بحضور الجلسة الرسمية، وعدم المشاركة في عشاء المؤتمر. وقد قررت أنقرة دعم الشرعية في ليبيا، لكنها قرّرت حتماً دعم مصالحها ونفوذها هناك. ولذلك تجاوزت شكليات ترتيبات الجلوس واختيار المتحاورين وعقدة وجود السيسي في القاعة.

يقول الرئيس التركي إن الهدوء في ليبيا تحقق بفضل دعوته من إسطنبول مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، إلى وقف إطلاق النار، في 8 يناير/ كانون الثاني. ولكن هناك حقيقة أخرى، أن العقود والاتفاقيات التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق، وقرار إرسال قوات محاربة إلى طرابلس، لدعم الحكومة الشرعية وإقناع موسكو بتغيير مواقفها حيال الجنرال المتمرد، خليفة حفتر، والتفاهمات التركية الروسية في مسار الملف الليبي، كان لها الدور الأكبر في فتح الطريق أمام مؤتمر برلين ونتائجه. ربط أردوغان، منذ البداية، بين التدخل العسكري التركي في ليبيا وضرورات تراجع حفتر وداعميه عن هدف السيطرة على طرابلس وبسط نفوذهم هناك على حساب مصالح لاعبين محليين وإقليميين عديدين. ويبدوأن غالبية الحضور في  برلين وقفوا إلى جانبه في تحليله هذا من خلال قرار الدعوة إلى رفض خيار الحسم العسكري، وإلزام جميع الحاضرين بعدم تأجيج النزاع في ليبيا.

تقول مؤشرات ومعطيات كثيرة إن أردوغان هو الذي أفشل خطة حفتر وأعوانه بالدخول العسكري إلى طرابلس، وليس تفاهمات برلين، وإنه دفع قوى عديدة إلى مراجعة رهانها على حفتر، وحاجتها إلى التنسيق مع لاعبين آخرين في ليبيا، وضرورة الاستماع إلى ما تقول وتريد، وبينهم أنقرة. وقد يكون أردوغان قد وافق على تجميد قرار إرسال قوات إلى ليبيا، لكنه في مقابل ذلك تجاوز حاجز حفتر الذي لم يوقّع في موسكو على الهدنة، فنال هذا ما يريد، فأخذه أردوغان منه في برلين، من دون أن يكون حفتر أمام الطاولة، ومن دون أن يحتاج الرئيس التركي توقيع الجنرال المتمرد، لتقديم خيار العملية السياسية في ليبيا، وإبعاد سيناريو الدخول العسكري إلى طرابلس.
يتقدم التصعيد والتصلب والتشدد التركي في ليبيا وشرق المتوسط هذه المرة، ليس لأن المحور الآخر ضعيف ومفكك، بل لأن أردوغان، شئنا أو أبينا، وحّد قوى عربية وغربية، مثل الجزائر والمغرب وتونس وألمانيا وإيطاليا في مواجهة مشروع إسقاط حكومة الوفاق بالقوة والسيطرة العسكرية على ليبيا.

تركيا هي التي لعبت دوراً محورياً في إفشال تقدّم قوات حفتر نحو العاصمة الليبية للسيطرة عليها، المشروع الذي كانت تقوده عواصم عربية وأوروبية، بالتنسيق مع روسيا منذ نحو تسعة أشهر. وأقنعت موسكو بمراجعة سياستها الليبية، وفوائد التنسيق التركي الروسي. ونسفت خطة فرنسا الشرق متوسطية، عبر توحيد اليونان والقاهرة كرأسي حربة في خطط تقاسم نفوذ المياه والطاقة هناك، من خلال مفاجأة اتفاقية ترسيم الحدود مع حكومة الوفاق، وألزمت حفتر وداعميه بخيار التفاوض والحوار السياسي حلاً وحيداً للأزمة الليبية. وقد أبلغ أردوغان المجتمعين في برلين بأنه لم يفاجأ برفض حفتر توقيع اتفاقية موسكو، لكنه أبلغه مباشرة أن تركيا موجودة في ليبيا "لتلقينه درساً لن ينساه إذا ما استمر في هجماته على العاصمة طرابلس"، فجاءت تفاهمات برلين مستفيدة من كل هذا التصعيد التركي.

أنهت أنقرة حلم الحصول على الضوء الأخضر، الإقليمي والدولي، الذي كان حفتر وشركاؤه يبحثون عنه لاقتحام العاصمة الليبية، والسيطرة عليها بتخطيط وتجهيز مصريين، وتسليح إماراتي، وقوة ضاربة من المقاتلين الروس والأفارقة. وخيبت آمال بعضهم في الرهان على ضرب التنسيق التركي الروسي في ليبيا، وتمسّكهما بمبادرة وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، والتزام حفتر بها، على الرغم من اعتراضه على أي دور أو نفوذ أو وجود لتركيا في الملف الليبي.

ما أرعب بعضهم، ربما، ليس دعوة حكومة الوفاق القوات التركية لمساندتها في ليبيا، بل الدعوات اللاحقة التي ستأتي من عواصم عربية وإسلامية وغربية، اكتشفت حجم المؤامرة عليها، وأن الرهان على المحور الفرنسي اليوناني المصري في ليبيا خاسر. كشف أردوغان النقاب عن مشروع الرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي كان يسعى إلى توريط المجموعة الأوروبية في مستنقع حساباته ومصالحه الضيقة، وأفشل مخطط السيسي الهادف إلى جرجرة الدول العربية وراء إشعال الحرب ضد تركيا على طريقة إضمار النار في لحاف العلاقات العربية معها، من أجل بعوضة يونانية أو قبرصية ــ يونانية أو الاستقواء بمواقف إسرائيلية. والأكثر إيلاماً أنه فعل ذلك، وهو يجلس معهم أمام طاولة واحدة، كان يعترض عليها سنوات، فقرّر قطع الطريق على استخدام هذه الفرصة ضده.

فاجأت أنقرة، بنقلاتها السريعة والمباغتة على جبهات ليبيا وشمال أفريقيا وشرق المتوسط، وبالتنسيق مع حكومة الوفاق، وموسكو لاحقاً، كثيرين وخيبت آمالهم. أهم ما حققته كان دفع التحالف الثلاثي، الفرنسي اليوناني المصري، إلى توحيد صفوفه ضدها، وهو ما كانت تريد أن تظهره للمجتمع الدولي حول من ينسق مع من، ولماذا، وما هو نوع المصالح التي تجمع هذه الدول التي بدأت تعاني من تراجع الدعم العربي والأوروبي والإقليمي والغربي لمواقفها وسياساتها المراهنة على حفتر لإسقاط الشرعية بقوة السلاح. وما دفع أردوغان الذي رفض الجلوس أمام طاولة واحدة مع الرئيس المصري لقبول ذلك هذه المرة، هو قطع الطريق على استغلال تغيّبه للتفرّد باتخاذ القرارات التي ساهم هو في التحضير لها، بالتنسيق مع نظيره الروسي منذ أسابيع، وتجنب استغلال تغيبه فرنسياً لتحميله مسؤولية ما يجري في ليبيا، وحماية حصة اليونان وإسرائيل وقبرص اليونانية في ليبيا وشرق المتوسط.

نجح أردوغان أيضاً في عرقلة جلوس ميتشوتاكيس اليوناني أمام طاولة برلين، أو فرض بحث مسألة الاتفاقية التركية الليبية حول ترسيم الحدود المائية على المجتمعين، وحرمه فرصة لعب الورقة الأوروبية ضد تركيا في ملفات الخلاف التركي اليوناني، والتركي القبرصي اليوناني. وقبل توجهه إلى العاصمة الألمانية، أعطى أردوغان الضوء الأخضر لباخرة التنقيب عن النفط "يافوز" بالتحرّك نحو السواحل القبرصية، في رسالة واضحة إلى القبارصة اليونان وأثينا، أن أنقرة ماضية في ما أعلنته بشأن خططها الغازيّة في شرق المتوسط. وقد أعطت قمة برلين أردوغان ما يريده وأكثر، لناحية مطلب ضمان قبول الأطراف الليبية بوقف إطلاق النار، والعودة إلى العملية السياسية وإلزام المجتمعين بتعهد "وضع حدٍّ للموقف العدواني الذي يتبنّاه حفتر"، وجني ثمار التنسيق التركي الروسي في تسهيل وصول المجتمعين في برلين إلى هذا البيان الختامي، ولكن القناعة التركية ما زالت في أن المواجهات لم تنته، وحلم إسقاط الحكومة الليبية الشرعية بالقوة لم يتراجع، وأنقرة لن تثق بتفاهمات كتابية جديدة، حتى ترى التنفيذ، خصوصاً أنها قرّرت تحمّل مسؤولية معادلة "مفتاح السلام في ليبيا".

وأردوغان كان في برلين، في المكان نفسه الذي ناقش تقاسم النفوذ الأوروبي في شمال أفريقيا قبل 136 عاماً على حساب تراجع النفوذ العثماني. ربما هي تصفية حسابات قديمة أيضاً مع فرنسا تحديداً، ولهذا رأينا ماكرون شديد الغضب والانفعال. ولن تعمل أنقرة في ليبيا بنصيحة نصر الدين خوجا الذي قرّر ركوب دابته ووجهه إلى الخلف. استوقفه الناس بسخريةٍ، متسائلين عمّا يفعل، فقال: علي حماية ظهري من الأعداء. فقالوا: وإذا هاجموك من الإمام ماذا ستفعل؟ فرد: هي مشكلة الحمار وليست مشكلتي.
أخذ الحضور أمام طاولة برلين بالاعتبار تغيرات المشهدين، الليبي والإقليمي، حيال الملف، وخلال رسم سيناريوهات الكر والفر. قطع أردوغان الطريق على تحويل ليبيا إلى مستنقع استنزاف لتركيا. وأبلغ الحضور بعدم رفع سقف التوقعات، وأن المرحلة المقبلة في ليبيا ما زالت بين تبديد الغيوم وتلبّد الأجواء، لكنه أعلن من هناك أن المنهزم الآخر في مؤتمر برلين كان السياسي عقيلة صالح الذي دعا إلى مواصلة الهجوم على عاصمة بلاده، فرفض الحضور منحه ما يريد. وأنقرة وموسكو تشكلان، بعد الآن، مركز الثقل الجديد الذي دفع بعضهم إلى التراجع والاحتماء بالمظلة الأميركية أو الطاولة الألمانية أو الجدار الروسي، لتجنب ارتدادات العاصفة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس