د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

يوم الثّامن من شهر فبراير من كلّ عام يُصادف ذكرى العُدوان الفرنسيّ على قرية "ساقية سيدي يوسف" الذي نفّذه سلاح الجوّ الفرنسي عام 1958م، ويأتي هذا العدوان بعد عامين من الإعلان الرّسمي عن استقلال البلاد التّونسيّة. بيد أن فرنسا أرادت بهذه العمليّة أن تنتقم من التّونسيّين بسبب دعمهم للثّوار الجزائريّين ووقوفهم إلى جانبهم في محنتهم التي تفاقمت منذ عام 1954 م وأصبحت حربًا شاملةً امتدّ لهيبها ليطال البلاد التّونسيّة. وقد أسفر هذا العدوان عن استشهاد نحو 80 تونسيًّا وجزائريًّا ما بين نساء وأطفال وشيوخ، وجرح عشرات آخرين. وامتدّ صدى هذه العمليّة العدوانيّة ليصل إلى جميع أنحاء العالم العربي والغربيّ على السّواء، وخصّصت الصّحف حيّزًا مهمًّا من صفحاتها لهذا الخبر. ونتناول هنا بالدّرس ما نشرته صحيفة " الاتّحاد" الفلسطينيّة عن الموضوع وما عبّرت عنه من تضامن مع التّونسيّين.

تحت عنوان "الاغتيال الجماعي في تونس يهدّد سلام المنطقة" نشرت هذه الصّحيفة في عددها رقم 82 والصّادر بتاريخ 11 فبراير سنة 1958م، أي بعد ثلاثة أيام من وقوع العدوان الفرنسي مقالاً تحدثت فيه عن نتائج هذا العدوان والخسائر البشريّة التي وقعت فيه، والصّدمة التي خلّفها لدى الشّعب التّونسي وشعوب العالم، وقالت الصّحيفة "قُشعريرة مُرعبةٌ سرت في الرأي العام العالمي في أعقاب الاغتيال الجماعيّ الذي اقترفته فرنسا بضرب قرية ساقية سيدي يوسف التّونسية بالقنابل الجويّة. لقد اغتيل 72 مواطنًا معظمهم تلاميذ مدرسة القرية، وأصيب 87 بجراح. ولكنّ البربرية الفرنسيّة أثارت أيضًا موجةً من استنكار عنيفة في العالم لم يشهد مثلها منذ العدوان الثلاثي على مصر، واجتاحت العالم العربي موجةٌ من السّخط على فرنسا تضامنًا مع شعب تونس العربيّ". ونشير هنا إلى أنّ الرّقم الذي أوردته الصّحيفة في عدد الضحايا أقلّ مما ورد في الشكوى التي قدّمتها تونس إلى مجلس الأمن والتي تتمثل في 79 قتيلاً، ونحو 130 جريحًا، وقد يرجع ذلك إلى أنّ الخبر المنشور كان على إثر القصف مباشرةً، والعدد تزايد بعد ذلك، والحقائق تكشّفت مع الأيّام.

وأوردت الصّحيفة تفسيرًا لسبب العدوان الذي ارتكبه الطيران الفرنسيّ على قرية "سيدي يوسف" الوادعة، وقالت إن "فرنسا ارتكبت جريمتها زاعمةً أنّ المدافع المضادة في ساقية سيدي يوسف أطلقت النيران على طائرة فرنسيّة وهي في أجواء الجزائر، وأن الوطنيّين الجزائريين يُعسكرون في تلك البلدة". والواقع ففرنسا، كما قال الطّيب السّحباني سفير تونس في القاهرة في تلك الفترة دفعها وضعُها البائس في الجزائر وإخفاقها في الانتصار على جيش التّحرير الجزائري إلى هذا العدوان حتى تُجبر تونس على التّراجع عن تأييدها كفاح الجزائريين، ثم أكّد أن تونس لن تتوقف عن مناصرتها شقيقتها الجزائر على الرّغم من العدوان الفرنسيّ.

ثم أوردت الصّحيفة ردود فعل الشّعب التّونسي إزاء ما حصل، فقد ثار الشّعب التّونسي وتظاهر وأضرب في طول البلاد وعرضها. وقد اشترك في تشييع الضّحايا، وفق الصّحيفة أكثر من مائة ألف نسمة.  واتخذت الحكومة خطوات كفاحية فاستدعت سفيرها في فرنسا، وطالبت بجلاء جميع القوات العسكرية الفرنسية على أراضيها بما في ذلك القاعدة البحرية في بنزرت شمال شرق البلاد التونسيّة. ثم لجأت إلى مجلس الأمن فطالبته ببحث شكواها على فرنسا بسرعة، لأنّ هذا العدوان يهدّد السلم العالمي، ففرنسا بصنيعها هذا تهدّد بتوسيع الحرب الجزائرية ونشرها في شمال أفريقيا.

وقد أبرزت هذه الصّحيفة تواطؤ أمريكا مع فرنسا في هذا العدوان، وأوردت على ذلك جملةً من الدلائل، فالطائرات التي قذفت قنابلها على ساقية سيدي يوسف من صنع أمريكي، وهذا يعني أنّ أمريكا شريك في العدوان الفرنسي على تونس. وأشارت إلى أن هذا العدوان "سيقوي كفاح الشّعب التّونسي ضد سياسة المهادنة مع الغرب التي تنتهجها الحكومة التونسية، ويفتخر بها الحبيب بورقيبة"، ويكشف التّمويه الاستعماري الذي ظهر في إرسال بريطانيا وأمريكا كمّية ضئيلةً من الأسلحة إلى تونس، بينما الطائرات المصنوعة في أمريكا تضرب القرى التونسية بالقنابل المُميتة.

ونشرت الجريدة نفسها في عددها رقم 83 الصادر بتاريخ 14 فيفري 1958م مقالا آخر بعنوان "الحبيب بورقيبة يُعلن: يجب جلاء فرنسا عن تونس دون إبطاء"، وبينت الصّحيفة أن التّونسيين خرجوا بأعداد غفيرة للاحتجاج على العدوان والتّنديد به. وقد وصلت هذه المظاهرات إلى القصر الجمهوري في مدينة تونس معلنة أنها تضع نفسها تحت تصرف الحكومة في الكفاح لإجلاء الفرنسيين عن البلاد. وحيال هذه الانتفاضة الهائلة أعلن الرئيس التّونسي آنذاك الحبيب بورقيبة وُجوب جلاء القوات الفرنسية حالا ودون إبطاء. وفي هذه الظروف أيضا أصبحت المعسكرات الفرنسية في البلاد مقطوعة عن العالم الخارجي تمامًا لا تصلها المؤن ولا يُسمح للجنود بالخروج منها أو الدخول إليها. وأجمعت الصّحف التونسية آنذاك على أنّ السبيل الوحيد للاتصال بهذه المواقع أصبح بطائرات الهيلوكوبتر، وتفيد الأنباء أن قاربًا فرنسيّا حاول الدّخول إلى القاعدة البحرية الفرنسيّة في بنزرت فصدّته المدفعيّة التّونسية.

ونفذت الحكومة التونسية قرارها فقدمت الشكوى إلى مجلس الأمن على الرّغم من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تسوية القضية خارج هذه الهيئة الدولية، فقد اقترحت حل المشكل خارج مجلس الأمن بحيث لا يخرج عن نطاق "العائلة الفرنسية"، وأرادت أن تتوسط لتسوية تلك المشكلة، أي إقناع تونس بالسّكوت عن العدوان الفرنسي، ولكن الوساطة لم تنجح. ويظهر أن فرنسا كانت تحاول أن تساهم في هذه المكيدة، مكيدة إيقاف المعركة من أجل جلاء القوات الفرنسيّة عن تونس. ولهذا أعلن ناطق بلسانها أن الحكومة الفرنسيّة مستعدّة لتعويض تونس على الخسائر في الأرواح والممتلكات التي نجمت عن ضرب ساقية سيدي يوسف بالقنابل في إطار اتّفاق عام يسوّي المشاكل بين تونس وفرنسا. وفي رسالة إلى الحبيب بورقيبة أكّدت جبهة التحرير الوطني في الجزائر أن عدوان فرنسا على تونس كان دليلاً على تصميم فرنسا على احتلال شمال أفريقيا من جديد...

وفي عدد "الاتحاد" رقم 85 الصادر بتاريخ 21 فبراير سنة 1958 م  ورد مقال آخر عن الموضوع نفسه بعنوان "حرب الإبادة ضدّ شعب الجزائر"، ونقل المقال ردود أفعال الصّحف الفرنسيّة المستنكرة للعدوان على السّاقية، وبيّن أن ممارسات الجيش الفرنسي ضدّ المدنيّين كشف وجه فرنسا القبيح ضدّ الشعبين التّونسي والجزائري، وقلبت الموازين ضدّ فرنسا وجعلت شعوب العالم تتعاطف معهما وتستنكر بشدة سلوك فرنسا ذلك أن "انفجار القنابل الفرنسية على ساقية سيدي يوسف التّونسية أصاب الاستعمار الفرنسي إصابةً شديدةً ورفع تضامن الشّعوب مع كفاح الجزائريين إلى مستوى أعلى".

   والواقع كذلك أنّ هذا العدوان الذي استهدف قرية ساقية سيدي يوسف الحدوديّة واختلطت فيه دماء التّونسيّين والجزائريّين قد رفع كذلك من منسوب العزّة والمحبّة والتّعاون بين الشّعبين المتجاورين، وجعل التّونسيين والجزائريين يقتنعون أكثر بأنّه لابدّ لهذا المعتدي أن ينجلي عن أرضهم كي يعيشوا في حرية وبكرامة ويقرّروا مصيرهم بأنفسهم. وتبين هذه الأخبار المنشورة في هذه الصّحيفة الفلسطينيّة أن هموم الشّعوب العربية في المشرق والمغرب واحدة، وأن التفاعل بين هذه الشّعوب كان موجودًا رغم البعد الجغرافي وضعف وسائل الاتصال في  تلك المرحلة. فأخبار تونس حاضرة في صحف فلسطين، وأخبار فلسطين كذلك يتردّد صداها في صحف تونس.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس