مصطفى واجد آغا أوغلو - خاص ترك برس

(Tarih tekerrürden ibarettir) عبارة يرددها الأتراك كثيرًا وهي تعني "التاريخ عبارة عن التكرار" فعلى الأقل لو أخذنا هذه العبارة للنظر منها إلى بلاد الرافدين وأرض العراق لرأينا كم نحن محقون في إطلاق هذه الجملة.

فقد دخلت الموصل وكركوك وبغداد وغيرها (المحافظات العراقية من منظور اليوم) تحت سيادة الدولة العثمانية في عام 1535 بعد نصرها في معركة العرَاقَين وقدم السلطان سليمان القانوني بنفسه إلى هذه المناطق ومكث في كركوك ثمانية وعشرين يومًا، وهذا يدل على اهتمام العثمانيين بهذه المناطق لا سيما كركوك. وبعد مرور قرن من الزمن خرجت هذه الولايات من حكم العثمانيين وقد قدم السلطان مراد الرابع على رأس جيش كبير عام 1638 وضمها مرة أخرى للسيادة العثمانية. وقد استشهد الصدر الأعظم العثماني "محمد باشا الطيار" في كانون الأول/ ديسمبر من نفس السنة ودفن في بغداد. وبعد مرور قرابة قرن أيضًا خرجت مرة أخرى هذه المناطق من حكم العثمانيين سنة 1733، وقدم الصدر الأعظم الأسبق القائد العام (سر عسكر) "طوبال عثمان باشا" على رأس جيش ضم المناطق لدولته في بادئ الأمر إلا أنه استشهد في معركة كركوك ودفن فيها، وقد دخلت المناطق تحت الحكم العثماني مرة أخرى، في ظل رضى الرعية من الدولة العثمانية، إلى أن انتهى الحكم العثماني في نهاية سنة 1918 باحتلال الإنجليز.

فالمقصود من هذا المدخل التأريخي الوجيز هو أن عائدية هذه المناطق كانت تتغير في كل مائة سنة تقريبًا لتعود إلى أحضان الدولة العثمانية من جديد، فليس غريبًا للأتراك أن يقولوا بأن التاريخ عبارة عن التكرار وهم يقرؤون مثل هذه الحوادث. علمًا أن هذه الحوادث ليست محصورة بالدولة العثمانية، فقضية "قبرص الشمالية" في السبعينيات من القرن المنصرم خير دليل على ذلك، حيث انتهت بإرجاعها إلى جمهورية تركيا.

وتمر علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة والتسعين "لمعاهدة أنقرة" التي وقعت في الخامس من حزيران/ يونيو سنة 1926 بين جمهورية تركيا من جهة والمملكة المتحدة والمملكة العراقية من جهة أخرى، والتي تخص قضية "ولاية الموصل"، أي المناطق المتنازع عليها بين تركيا والمملكة العراقية (آنذاك). 

فبعد الاحتلال البريطاني ومن ثم استحداث المملكة العراقية بقيت ولاية الموصل (التي تضم كركوك وأطرافها أيضا) داخل الحدود العراقية إلا أنها كانت قضية عالقة ومناطق متنازعة بين تركيا والعراق برعاية بريطانيا، فنوقشت قضية الموصل في لوازان سنة 1923 أولًا وبعد فشل الحوارات تحولت القضية إلى عصبة الأمم (الأمم المتحدة حاليا) لتبقى هناك ثلاث سنوات وتنتهي بمعاهدة أنقرة سنة 1926. والرأي العام السياسي والفكري التركي منقسم إلى قطبين في هذه القضية:

أولًا: قطب يرى بأن التوقيع على معاهدة أنقرة كانت خاطئة وخسارة لتركيا.

ثانيًا: وقطب يرى بأن جمهورية تركيا كانت حديثة آنذاك، ولم تستطع إرجاع الموصل وكركوك إليها بالقوة فاضطرت التنازل عنها، ولكنها وضعت شروطًا ومواد في بنود المعاهدة هي بحد ذاتها تعتبر نصرًا لتركيا. 

ولو قرأنا بنود المعاهدة لرأينا بأن القطب الثاني محق في قوله، فأنا لا أريد أن أدخل إلى تفاصيل معاهدة أنقرة بالكامل هنا، ولكنني أود أن أشير إلى مادتين فقط من بنودها، هاتين المادتين تكفيان وتوفيان في إلغاء معاهدة أنقرة (5 حزيران 1926) كاملًا والرجوع إلى ما قبل 1926، فتكون هذه المناطق متنازع عليها بين تركيا والعراق مجددًا، وهاتان المادتان هما:

أولًا: المادة الخامسة من معاهدة أنقرة تقول: تتعهد تركيا والعراق كل منهما على حد سواء بعدم تغيير الحدود المرسومة (الحدود الحالية) قطعًا، وتتجنب كلا البلدين أدنى محاولة أو مشروع يهدف لتغيير الحدود الموجودة. 

ثانيًا: المادة الثانية عشر من معاهدة أنقرة تقول: تتعهد كلا البلدين، بعدم القبول، أو فسح المجال لتنظيمات، أو تجمعات بالعمل في المناطق الحدودية بالضد للدولة الآخرى.

فالمادة الخامسة تتناقض مع أي محاولة أو مشروع لاستحداث أو تأسيس دولة أو دويلة في العراق، لأن أي حملة من هذا القبيل تعني تغيير الحدود الحالية والتي تعهد كلا الطرفين بعدم تغييرها. وهذا لم يحدث رسميًا إلى الآن فإذا وقع فلكل حادث حديث.

أما المادة الثانية عشر فهي تتناقض مع وجود جماعات أو منظمات إرهابية تعمل ضد تركيا حكومة وشعبًا، وبات معروفًا للقاصي والداني بوجود منظمة "ب ك ك PKK" الإرهابية في داخل الأراضي العراقية وهي تستهدف أمن وسلامة تركيا من داخل العراق وهذه تتناقض مع المادة الآنفة الذكر من معاهدة أنقرة، وربما باتت "معاهدة أنقرة" قاب قوسين أو أدنى من إلغائها واستخدام تركيا كافة حقوقها المشروعة (على الأقل من وجهة نظرها) تجاه قضية الموصل وكركوك.

تهميش التركمان إلى أين؟

بعد الخوض في قضية الموصل وذكر بعض موادها ولو بشكل وجيز، أود ربط هذه القضية التأريخية - السياسية المعقدة مع تهميش المكون الرئيسي الثالث في العراق.

أولًا أود أن أنوه للوجود التركماني في العراق، فالمرتكز في الأذهان وخاصة في العقلية السياسية الحاكمة في العراق أن التركمان استوطنوا في العراق مع دخول العثمانيين، فهذا لا شك ظلم وتهميش آخر بحق التركمان، لأن وجودهم في العراق يعود إلى قرون سابقة من حكم العثمانيين، فالبعض من المؤرخين يرجع وجود التركمان إلى العصر السومري، أو الأموي على أقل تقدير.

لقد شارك التركمان في تأسيس الدولة العراقية في معظم مفاصلها، لا سيما في تأسيس الجيش العراقي فكان العشرات بل المئآت من كبار الضباط التركمان يخدمون في الصف العسكري. وذاق التركمان الأمرين في الحكومات العراقية المتعاقبة، وبالأحرى في عهد النظام البعثي، فقد مُنعوا من حقوقهم الثقافية وغيرها، وأعدم النخب التركمانية البارزة وسجن آخرون وارتكبت مجازر مروعة في مناطقهم راح على إثرها الآف من الضحايا.

وبعد سقوط النظام البعثي عام 2003 استبشر التركمان خيرًا، وظنوا أن الظلم الواقع عليهم في كافة الجوانب طوال عقود سيزول، إلا أنهم واجهوا تحديات وعقبات أخرى في ظل نظام ديمقراطي "مزعوم" فبعد مرور سبعة عشر عامًَا من تغيير النظام لم يمنح للتركمان أبسط حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية، بالرغم من أن التركمان كانوا وما زالوا مع "وحدة العراق أرضًا وشعبًا وحكومة" وأثبتوا وطنيتهم أكثر من مرة لا سيما في قضية الاستفتاء الغير الشرعي في سنة 2017، وكذلك في مقارعتهم ومقاومتهم ضد تنظيم داعش الإرهابي وتقديمهم الآف من الشهداء في المناطق التركمانية المختلفة.

فبالرغم من أنني شخصيًا ضد توزير شخصيات في الحكومات حسب الانتماءات المذهبية أو القومية، أو توظيفيهم في أي مفصل من مفاصل الدولة تحت هذه المسميات الضيقة، إلا أن الأمر ما دام ليس بمفهموم دولة المواطنة، والمناصب توزع حسب المسميات فللعرب الشيعة 12 وزيرًا وللعرب السنة 6 وزراء وللكرد 3 وزراء وللمسيحيين وزارة واحدة، إذن لم لا تعطى وزارة واحدة للتركمان، والقضية ليست في الوزارات فقط بل في كافة مفاصل الدولة كما أسلفت، فلقد بات التركمان مهمشين في قلعتهم وعقر دارهم في كركوك!!

أكرر وأقول إن التركمان كانوا وما زالوا وطنيين ولم ينووا يومًا من الأيام الانفصال عن العراق أو أي شيء من هذا القبيل بل إنهم مع وحدة العراق، ولكن أذكّر المعنيين في العراق بقرب مرور قرن على "معاهدة أنقرة" في ظل الإخلال ببعض موادها من قبل الجانب العراقي، وفي ظل إطلاق الأتراك عبارتهم الشائعة: (Tarih tekerrürden ibarettir).

وأقول ختامًا "احذروا الحليم إذا غضب"، وأدركوا جيدًا تهميش التركمان إلى أين؟؟؟ 

عن الكاتب

مصطفى واجد آغا أوغلو

طالب دكتوراه في مدينة بورصة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس