ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

ظاهرة الذباب الإلكتروني لها جذورها التاريخية، في حقبة ما قبل المنصات الإلكترونية، فالجرائد المطبوعة عرفت مهام الذباب الإلكتروني ونفذته أيام الاحتلال الغربي لبلادنا، فلقد كانت جريدة المقطم الصادرة في مصر - لأصحابها  فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس لبنانيي الجنسية؛ خريجي الكلية الأمريكية في بيروت - مثالا لذلك، وكان لمؤسسات الغرب التعليمية تأثيرا في الشرق الأوسط، إذ ارتبطت، بحسب مصادر تاريخية، بالحركة الماسونية من خلال هذه الكليات، وتعد "المقطم" من أوائل المؤسسين لمفاهيم الذباب الإلكتروني، فلقد كانت الجريدة تحاول زرع مفاهيم تناهض الوطنية في لباس وطني، وتخلط بين المفاهيم، وتساوي بين الجاني والضحية، بل تضع مبررات في بعض الأحيان للجاني وتدين الضحية، حتى أصبح ديدنها محاربة مصطفى كامل ورفاقه، رغم الخط الوطني الواضح للرجل وحزبه من بعده، فاستطاعت الجريدة أن تشيطنه وحزبه وتظهره بمظهر الساعي لمصالحه الشخصية.

في العقدين الأخيرين، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي من الأهمية بمكان لا يمكن إلا التسليم به من حيث التأثير على المستوى الشعبي والسياسي، فلم يعد الزعيم يحتاج إلى أن ينزل إلى الشوارع أو أن يجلس على المقاهي ويعقد الندوات أو يلف المدن والقرى لكي يحرك الشارع في قضية ما، فلقد سهلت منصات التواصل الاجتماعي سبل الوصول للناس وتحريكهم أو على الأقل تغير مفاهيمهم أو استدرار تعاطفهم تجاه قضية ما، وأصبح جمع الناس ومخاطبة عواطفهم وتغيير مدركاتهم فن يدرس، وأدواته منصة إلكترونية وعدة آلاف يهللون لما تقول، نعم فلا يكفي أن تتكلم متقنا فن مخاطبة الجماهير وتغير قناعتهم، كما يلزم أيضا أن يكون وراءك منصات داعمة وحسابات مهللة.

تصدر وسام  "Sosyal Medyaya Dokunma" أو (لا تلمس وسائل التواصل الاجتماعي) منصة التدوين القصير تويتر في تركيا، على خلفية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام أعضاء حزب العدالة والتنمية بعزمه تقديم مشروع قانون لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، والمدفوع، وبحسب الرئيس التركي، بزيادة ما أسماها "الأعمال غير الأخلاقية" وأضاف أردوغان أن "هذه المنصات لا تليق بهذه الأمة. نريد إغلاقها ومراقبتها عن طريق طرح (مشروع قانون) على البرلمان في أقرب وقت ممكن". وأرجع الرئيس التركي تزايد التجاوزات عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى عدم وجود قواعد تنظيمية، على حد قوله.

وفي الرواية حول دوافع هذه التصريحات وجهين، الأول تقصه الموالاة ويخلص إلى أن حملة سب غير أخلاقية تعرض لها وزير المالية التركي وصهر الرئيس برات ألبيرق، بعد أن أظهر مولوده الرابع منذ أيام في صورة على منصة تويتر مبتهجا، لترد عليه آلاف الحسابات بوابل من السب والطعن في العرض له ولزوجته إسراء، ما عزته الموالاة إلى جماعة فتح الله جولن مخطط محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016.

والوجه الثاني من الرواية تسوقه المعارضة، ويخلص إلى حملة التعليقات الهادرة التي صاحبة لقاء الرئيس أردوغان عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالشباب التركي للتعرف على مشاكلهم والرد على استفساراتهم، وتوضيح ما أشكل عليهم، فجاءت التعليقات سلبية بشكل ملفت وكلها في اتجاه واحد ومعنى واحد ورسالة واحدة " Oy moy yok " أو "لن نصوت لكم"، وهو ما جعل قادة المعارضة يركبون الموجة ويصبون مزيد من الزيت على النار لإظهار الغضب الشعبي تجاه الرئيس وحزبه، حتى أن رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أوغلو صرح (إن الشباب الأتراك هم من سيقضون على نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان).
الرئاسة التركية قالت أنها تتبعت التعليقات وكانت جلها من بنسلفانيا، في إشارة إلى فتح الله جولن وأتباعه الهارب في أمريكا.

وبعيدا عن الروايتين، فإن فكرة إغلاق منصات التواصل الاجتماعي لا تتفق مع الخط العام الذي جاء به الطيب وأعوانه في حزبهم الذي بني بالأساس على الحريات، فأول من فتح باب الحريات على مصراعيها كان حزب العدالة والتنمية، فلم تشهد الصحافة ما شهدته من حريات مثل ما عاشته في السنوات العشر الأولى من حكم العدالة والتنمية، كما أن أعراق كانوا محرومين من مجرد الحديث بلغتهم، ولا تسمي بأسمائهم التاريخية، ولا ممارسة السياسة، ففتح الباب للأكراد لتعلم بالكردية والتسمي بأسماء كردية والحديث في الأماكن العامة بالكردية وإنشاء أحزاب كردية.

سيدي الرئيس لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي سببا في إنقاذ هذه الأمة العظيمة من السقوط في براثن الانقلاب العسكري، والدخول في دوامة كانت ستعيد تركيا خمسينا عاما إلى الوراء، وتذكر يوم خروجك على برنامج "فيس تايم" ليلة الانقلاب على شاشة التلفاز لتقود الشعب إلى الحرية، فلا يمكن لصانع حرية أن يغلق أبوباها، إنه المتنفس والنافذة لتسمع الناس وتقيس توجهاتهم، ولا يجرمنك استخدام البعض وسائل التواصل الاجتماعي على النحو الذي يغضبك، فلقد علمنا المعلم الأول محمد صل الله عليه وسلم ألا نغضب لأنفسنا، وأظنك مما يتلمس سيرته.

الضغوط كبيرة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، والأعباء أكبر، أنظر إلى ما هو أهم ولا تلتفت فالذباب يغرد والقادة تسير.        

 

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس