د. أحمد ذكر الله - خاص ترك برس

تروج الابواق الاعلامية المصرية في نفس التوقيت سنويا بمناسبة ذكري الثلاثين من يونيه لإنجازات لا يلمسها المواطن المصري، مبشرة بان المشروعات التي يتم تنفيذها تعد نواة لأشجار التنمية الشاملة التي ستظلل علي حياة المصريين، وسيتساقط ثمرها الذي اوشك علي القطاف، ويمر العام تلو الاخر ولا يجد المصريين الا تلال الديون الداخلية والخارجية التي تتضاعف، وتآكل دخولهم الحقيقية تحت وطأة ما سمي ببرنامج الاصلاح الاقتصادي، ومشروعات يجب مقاضاة منفذوها بتهم اهدار المال العام.

كانت باكورة المشروعات غير ذات الجدوي الاقتصادية هو حفر مشروع تفريعة قناة السويس، والذي تكلف قرابة 70 مليار جنيه، سحبها المودعون من البنوك، واعادتها السلطة اليهم بعد تعويم الجنيه بنصف قيمتها تقريبا، ودفعت الدولة لشركات الحفر حوالي 8 مليار دولار، التهمت اكثر من ثلث الاحتياطي النقدي، وتورطت هيئة القناة في السداد، فاضطرت للمرة الاولي للاقتراض الخارجي لمرتين متتاليتين بما يقارب 3 مليار دولار، ولا زالت تسدد الاقساط والفوائد حتي الان.

وكما توقع الاقتصاديون، اثبتت الاعوام السابقة ان المشروع لم يكن مدروسا، ولم تزد ايرادات القناة بفرعيها الحديث والقديم عن معدلات نموها الطبيعية السابقة، مما اضطر السيسي للاعتراف بان المشروع كان لرفع الروح المعنوية للمواطنين، ولكن النتائج الاقتصادية للمشروع كانت كارثية ، حيث اجبر تآكل الاحتياطي النقدي الحكومة علي اللجوء لصندوق النقد الدولي، وفق اشتراطات شديدة القسوة ، تسببت في قفزة غير مسبوقة لمعدلات الفقر بين المصريين.

ثم تفاجئ المراقبون بسيل من مشروعات النقل، بعد استصدار قانون بجواز الاسناد المباشر خرقا لقانون المناقصات والمزايدات المعمول به في المشروعات الممولة من الموازنة العامة للدولة، وبالامر المباشر تولت الاذرع الاقتصادية للقوات المسلحة تنفيذ كل مشروعات الدولة، ولان عدد وحجم تلك المشروعات يفوق كثيرا امكانيات تلك الاذرع المادية والبشرية، وسعيا وراء التربح اكتفت تلك الاذرع بالاشراف علي التنفيذ فقط، وتكليف شركات مدنية من الباطن بالعمل الحقيقي.

وكانت امثلة اهدار المال العام لصالح تربح هذه الاذرع حاضرة بقوة في معظم المشروعات التي تقوم عليها، فكان الهوس ببناء القصور والفلل الرئاسية الجديدة، وتجديد قصور تاريخية اخري مثل قصر البارون، والمعبد والمقابر اليهودية في القاهرة، وانشاء مباني للتفاخر في العاصمة الجديدة التي افتتحت اكبر مسجد وكنيسة في مصر، علاوة علي اعلي ناطحة سحاب في افريقيا، واكبر بحيرة مائية صناعية، في دولة تعاني من ازمة مائية ضخمة سيزيد من تداعياتها بدء الملء لسد النهضة، ووصفها السيسي نفسه بانها شديدة الفقر، واكد البنك الدولي ان 60% من سكانها تحت وحول خط الفقر.

كما افتتح السيسي مؤخرا مطار سفنكس الذي يبعد جنوبا عن مطار القاهرة بأقل من 30 كم وفي نفس اليوم افتتح مطار العاصمة الادارية الجديدة الذي يبعد اقل من 40 كم من مطار القاهرة، كما دشنت الدولة مطار راس سدر شرق القناة والذي يبعد اقل من 60 كم من مطار العاصمة وبجواره تم افتتاح مطار البردويل، اي انه في دائرة نصف قطرها اقل من 80 كم يوجد خمسة مطارات مصرية، في اهدار فادح لأموال الشعب المصري.

 وذلك علاوة علي انفاق 350مليون جنيه علي تحديث مطار النزهة بمحافظة الاسكندرية - التي تحتوي علي مطارين آخرين هما مطار الاسكندرية ومطار برج العرب- ثم صدور القرار بتجميد نشاطه بحجة  وجود مياه جوفية اسفل تربته التي لن تستطيع تحمل اوزان الطائرات، ولم تحاسب شركة المقاولات التي نفذت المطار قديما او تلك التي طورته حديثا، عن خطا لا يقع فيه مهندس حديث التخرج يطلب عمل مجسات للتربة لاستكشاف قدرتها علي التحمل، وذلك بالطبع حجة واهية لأن ارض المطار مطمع قديم لاحد رجال الاعمال والذي خرج من السجن بعفو رئاسي في قضية قتل عمد  لاحد المطربات.

كل هذا بخلاف رصف عشرات الالاف من الكيلومترات فيما سمي بمشروعات الشبكة القومية للطرق، واغلبها طرق لا يسير عليها تقريبا سيارة الا كل ثلاث ساعات، مع تجاهل تام للطرق التي تخدم الاغلبية الساحقة من المواطنين في الدلتا القديمة.

 ورغم قفزات ترتيب مصر في مؤشر الطرق العالمي بأكثر من 70 مركز الا ان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء يشير الي ان اعداد حوادث السيارات بلغت 5220 حادثة في النصف الأول من عام 2019، قتل فيها 7800 قتيل بواقع 1300 قتيل شهريا، مقابل 4426 حادثة في نفس الفترة من عام 2018، بنسبة ارتفاع قدرها 17.9 %، مما يدلل بوضوح ان الطرق الجديدة انشات في المكان الخاطئ، وان الواجب والاولوية كان لوقف نزيف الدماء التي تتسبب فيها شبكة الطرق القديمة.

وجاء افتتاح السيسي لمدينة الاثاث في دمياط كمثال صارخ علي اصرار الدولة علي اهدار الاموال، حيث يبلغ عدد الورش المسجلة في محافظة دمياط نحو 40 ألف ورشة، اضافة الي 37 الف ورشة غير مسجلة، يعمل بهم نحو مليون عامل، توقف اكثر من 80% من ورش دمياط القديمة عن العمل بسبب الازمة الاقتصادية التي نتجت عن تعويم سعر الصرف، ولم تمد الحكومة يدها اليهم.

ورغم ان ورش دمياط القديمة وعمالها بمثابة ثروة قومية يمكن البناء عليها، الا ان الدولة اصرت علي بناء مدينة الاثاث الجديدة على مساحة 331 فدانا، والتي تضم 2400 ورشة صغيرة ومتوسطة، و 75 مصنعا متخصصا، والتي لم تشغل منها اكثر من 20% فقط، وتركت المدينة القديمة تعاني وقف الحال.

والعجيب ان المدينة الجديدة بنيت علي مرحلتين، ورغم ان نسبة الاشغال في المرحلة الاولي كان ولا يزال ضعيفا للغاية، الا ان الدولة اصرت علي تنفيذ المرحلة الثانية، والتي كان يمكن تأجيلها لبعض الوقت حتي تتحسن الاحوال، والاكثر عجبا ان يحتفي الاعلام المصري بالمشروع ويعتبره ارهاصا للثورة الصناعية المصرية.

يوجد عشرات الامثلة الأخرى علي التوجيه الخاطئ لأموال الشعب والتي تصنف تحت بند اهدار المال العام، بما يوجب تقديم مرتكبيه الي المحاكمة، لاسيما ان معظم هذ الاموال كبل الدولة بقروض خارجية بلغت 120 مليار دولار، وقروض داخلية اضحت 4.3 تريليون جنيه، يشكلان 100% من الناتج المحلي الاجمالي تقريبا.

 وبذلك فقد جمدت السلطة الاموال في بنايات وطرق غير مستغلة، ولا تدر ما يساعد في سداد الاقساط والفوائد، ليكون سداد القروض القديمة عن طريق الاقتراض الجديد هو الحل الوحيد لعدم الافلاس، وسيدفع الشعب ثمن ذلك في المزيد من التبعية للخارج، بالإضافة الي اعباء شروط القروض الجديدة والتي ستزداد قسوة بعد تأكد الدائنين من احكام السيطرة علي القرار المصري، وربما يتطور الامر لدفع الجيش الي مغامرات عسكرية خدمة لأهدافهم.

ضل السيسي طريق التنمية، ولن يجد الا التأجيل المتوالي لإلهاء الشعب عن وعوده الزائفة، وستعمل آلته الاعلامية علي تزييف الحقائق، التي باتت لا تحتاج الي اكتشاف، فبعد ستة سنوات كاملة وبدلا ان تتساقط الثمار التنموية علي المواطنين تساقطت عليهم زخات القروض، وويلات الاستبداد، وسيق بهم الي حلقات مفرغة من الكذب، سيدفع ثمنها الوطن والمواطن.

عن الكاتب

د. أحمد ذكر الله

أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس