رامي الجندي - الجزيرة نت

لم يفت الوقت بعد لاستعراض ما يمكن تسميته بالنموذج التركي في إدارة أزمة جائحة كورونا، لقد حالت جهود وزارة الصحة التركية والإجراءات الحكومية الأخرى من مختلف القطاعات التركية دون وقوع كارثة أكبر بالنظر والقياس إلى حال الدول الأوربية، وكذلك مع عدد السكان الاثنين وثمانين مليوناً، التي شهدت أعداداً كبيرة في الإصابات وحالات الوفاة، ورغم أن هذا الموضوع كبير؛ لكني سأحاول التطرق إلى بعض الجهود الحكومية الصحية بالخصوص.

البداية، وصل الفيروس إلى تركيا في الحادي عشر من مارس/ الماضي، لكنه انتشر في فترة قصيرة بعموم البلاد، بسبب وجود تركيا -جغرافياً- حلقة وصل لدول العالم عبر مطاراتها وحدودها، وتراوحت تركيا في المكانة العاشرة ضمن أسوأ دول العالم بخصوص جائحة كورونا -أسوأ من الصين وبريطانيا-، لكن بعد ثلاثة أشهر من تسجيل الحالات الأولى، لم تشهد تركيا تدهورا دراماتيكياً في أعداد الإصابات والوفاة رغم عدم فرض السلطات الإغلاق التام في البلاد، إلا إغلاقاً تاماً ليومي السبت والأحد نهاية الأسبوع ولمدة شهرين ونصف الشهر فقط، حيث تم إعلان السيطرة على الفيروس من قبل وزير الصحة فخر الدين قوجة، بعد ثمانية أسابيع من اكتشاف المريض صفر.

اعتمدت تركيا -في المجال الصحي بالخصوص- استراتيجية من عدة مراحل يمكن استعراضها كالتالي:

المرحلة الأولى: سرعة الكشف عن المصابين بالفيروس، عبر إجراء فحوصات لكل من يعاني من أعراض الفيروس والتي تم نشرها عبر وسائل الإعلام التركية ضمن تغطيات إعلامية مكثفة مع خبراء الصحة والمجالات ذات العلاقة.

المرحلة الثانية: عزل من ثبتت إصابتهم عن محيطهم حسب سوء حالة المصاب، ويتم عزل المصابين في المرحلة الأولى عبر الحجر والعزل المنزلي للإصابات غير بالغة السوء، وبخصوص المحجورين في المنزل؛ تم تتبع تحركاتهم حال خروجهم من البيت عبر رقم الموبايل الشخصي في محاولة لتقليل أو منع احتكاكهم بالآخرين، أما حالات الإصابة بالغة السوء فيتم نقلهم إلى المستشفيات المتخصصة للعلاج من فيروس كورونا.

المرحلة الثالثة: مع كشف المصابين بالفيروس، يتم تعقب كل شخص اختلط بالمصابين وإجراء اختبار فحص الإصابة عليهم للتأكد من سلامتهم، ومن تثبت إصابته -إيجابية- يتم حجره بناءً على سوء حالته الصحية، في المنزل أو إلى المستشفيات لتلقي العلاج المكثف، وفي العموم كانت النتيجة منخفضة مقارنة بعدد سكان تركيا.

هناك عدد من القواعد التي اعتمدتها القيادة التركية، تم بشكل رئيسي ودائم حظر التجوال في الولايات الكبرى -31 ولاية- ومنها إسطنبول وأنقرة على مدار ما يقرب من ثلاثة أشهر في يومي السبت والأحد، بجانب ذلك منع من تزيد أعمارهم عن 65 عاماً وتقل عن 20 عاماً من الخروج، مع منحهم فرصة بين وقت وآخر للخروج من المنزل، أما الأطفال فقد منحت لهم ثلاث مرات فقط للخروج من المنزل.

وفي المجال الصحي والجهود المبذولة فيه؛ قامت السلطات التركية بمتابعة الحالة الصحية لمواطنيها خارج الأراضي التركية، ولم تتوان عن جلب المصابين منهم للعلاج في المشافي التركية، أو أولئك الراغبين منهم في العودة إلى بلدهم في ظل الإغلاق التام للحياة في دول العالم رغم أن العديد من دول العالم لم تقم بذلك، مع القيام واتباع الحجر للعائدين لمدة 14 يوماً في سكن خاص، وهو ما لم تجاريه سوى عدد قليل جداً من دول العالم مع المصابين أو المشتبه بإصابتهم أو المحجورين احترازياً حال عودتهم إلى بلادهم.

بعض المراحل السابقة قد تتشابه مع بعض الإجراءات في دول أخرى، لكنها بالتأكيد ليست العامل الحاسم في تقليل أعداد الإصابات والوفيات، لكنها مساهِمة بشكل كبير في منع الاختلاط في الشوارع وبالتالي انتقال الفيروس، والعامل الأهم في النموذج التركي هو قدرة النظام الصحي الذي تم تأسيسه بشكل قوي خلال السنوات السابقة وخاصة ليكون رائداً في السياحة العلاجية؛ وتحديداً خبرة عقود في تعقب مرض الحصبة، هو من كان له الفضل في تقليل أعداد الإصابات وكذلك عدم وصول المصابين إلى حالة وفاة أو دخولهم غرف العناية المركزة، بجانب الاستجابة السريعة للأزمة من خلال الاختبارات، وتعقّب المصابين، وعزلهم، وفرض قيود صارمة على الحركة وفرض غرامات على المخالفين لحظر التجوال.

وبتفصيل أدق؛ لقد شكلت الخطة الوطنية التركية لمكافحة وباء الإنفلونزا التي أعدت في عام 2019، الخطوط العريضة لاستراتيجية تركيا في مكافحة كورونا، وعلى إثرها؛ شكلت تركيا في 10 يناير/كانون الثاني 2020 اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا المكونة من 31 خبيرا في المجال الطبي، عبر العديد من الاستراتيجيات والتي منها: مراجعة وتقويم القصور في عملية إدارة المرضى مع زيادة قدرة المعامل الصحية على التعامل مع أعداد المرضى الكبير، بجانب زيادة عدد الموارد البشرية ذات العلاقة، وتحسين الموارد المالية المخصصة للشؤون الصحية، وإنشاء الهياكل التنظيمية المرنة وتحسين استراتيجية الاتصال السريعة.

بمعنى؛ يعود النجاح التركي في أساسه إلى الاستثمار الحكومي الكبير مبكراً في النظام الصحي، وتقديمها تغطية صحية شاملة ومجانية لجميع مواطنيها، بموازاة التطوير الهائل لتركيا في البنية التأسيسية الصحية خلال أقل من 18 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية الذي أهَّل تركيا لتكون مرجعاً وعنواناً للسياحة العلاجية.

وفي المجال الصحي أيضاً؛ شهدت تركيا خلال أزمة جائحة كورونا؛ افتتاح عدد من المستشفيات بنظام المدينة الطبية بكامل التجهيزات الطبية المحلية، وهذه المستشفيات:

مستشفى المدينة الطبية تشام وساكورا في إسطنبول، يضم 8 مشافي متكاملة، وهو الأكبر في أوربا من حيث سعة وحدات العناية المركزة وعددها 426 سرير عناية مركزة، و2682 سرير عادي، 7000 وحدة فحص، بقدرة إجراء 500 عملية يومياً بـ 90 غرفة عمليات.
مستشفى "البروفسور مراد ديلمنر" في مطار أتاتورك بإسطنبول، وسيتم تشغيله في مجال السياحة العلاجية ومكافحة الأوبئة والأمراض، يتسع المستشفى لـ 1008 سراير، به 432 سريراً لمرضى العناية المركزة، و 36 سريراً لقسم الطوارئ، مع 8 لفرز المصابين، عدد 16 غرفة عمليات، و 576 غرفة مرضى، وجهازي إنعاش قلبي رئوي، و 4 أجهزة للتصوير المقطعي، و 4 أجهزة للرنين المغناطيسي، وغرفتين للتصوير الإشعاعي.
مستشفى بروفيسور فريحة أوز - إسطنبول، بمساحة إجمالية 125 ألف متر مربع، مبنى المستشفى 75 ألف متر مربع، حدائق ومساحات خضراء ومواقف سيارات بمساحة 50 ألف متر مربع، عدد الأسرة الإجمالي 1008 سراير، 16 غرفة عمليات، عدد 576 غرفة للمرضى مع حمام مجهزة للعناية المركزة، بها عدد 36 غرفة مجهزة لمرضى غسيل الكلى، عدد 432 غرفة نوم لمرضى العناية المركزة، عدد 36 سرير الطوارئ، عدد 8 غرف لفرز المرضى، غرفتان للإنعاش القلبي الرئوي، عدد 4 غرف للتصوير المقطعي، عدد 4 غرف MR، غرفتان للأشعة السينية.
مستشفى المدينة الطبية اوك ميدان بروفيسور جميل طاشجي أوغلو، وبها 600 سرير، 28 غرفة عمليات.
مستشفى هاضم كوي - إسماعيل نيازي كورتولموش- بسعة 101 سرير، 59 سرير عمليات مركزة، حيث تم ترميمه وإعادة افتتاحه.

ووفقاً لإحصائيات حكومية تركية، يوجد في تركيا 1518 مستشفى فاعلة بها 240 ألف سرير، إضافة إلى 40 ألف سرير في وحدات العناية المكثفة. كما صرَّح وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة، بأن المستشفيات التركية تضم نحو 100 ألف غرفة جاهزة لتتحول إلى غرف عزل أو عناية مركزة إن قضت الحاجة، ورغم ذلك لم تصل نسبة الإشغال في غرف العناية المركزة أكثر من 60٪ خلال أزمة فيروس كورونا.

لكن ماذا عن العنصر البشري الطبي في تركيا؟ تتميز تركيا ببنية تحتية صحية قوية، يبلغ عدد الأطباء العاملين في وزارة الصحة وفي المشافي الجامعية والقطاع الخاص نحو 165 ألف طبيب، إلى جانب 205 آلاف ممرض وممرضة، و360 ألف فرد دعم طبي، بجانب ذلك وفي ظل مكافحة جائحة كورونا؛ أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن البدء بتوظيف 32 ألف عامل جديد في المجال الصحي.

في مقدمة كل ما سبق؛ يأتي عامل مهم لا ينبغي نسيانه؛ وهو إغلاق الحكومة التركية لأجوائها وحدودها فوراً أمام حركة الدخول والخروج منها وإليها للدول التي شهدت أعداداً كبيرة من الإصابات، وبالرغم من عدم ظهور إصابات في المطارات إلا أنها اتخذت قرارا بإيقاف حركة الطيران إلى مدينة ووهان الصينية ابتداء من 21 يناير/كانون الثاني، وفي 3 فبراير/شباط أوقفت تركيا الرحلات من وإلى الصين، وفي 23 من الشهر ذاته أغلقت الحدود مع إيران، وفي 29 من ذلك الشهر أوقفت الرحلات مع إيطاليا، بجانب وقف حركة السفر الداخلية بين الولايات التركية، اعتباراً من 27 مارس/آذار إلا بإذن خروج رسمي من والي الولاية يبين الأسباب الداعية للسفر.

يمكن القول إن تركيا لديها نظام صحي قوي ومتين ويتفوق على العديد من الدول وتحديداً من حيث نصيب المواطن من غرف العناية المركزة، الأكثر من نظيراتها في العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، كما أنه في ظل الجائحة لم تشهد تركيا نقصًا في توافر الكمامات أو المعقمات وأدوات الفحص الخاصة بالفيروس، بجانب ذلك؛ الإعلان اليومي الدقيق لعدد الإصابات والوفيات وأعداد اختبارات فحص الفيروس والتي كانت في تزايد يوماً بعد الآخر، بإدارة وزير الصحة بنفسه، ووجود فريق من الخبراء الأطباء في اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا، ولعل قادم الأيام تكشف مزيداً من الجهود بخصوص مكافحة فيروس كورونا. في المقال القادم نتكلم عن الجهود الحكومية لدعم القطاع الاقتصادي.

عن الكاتب

رامي الجندي

باحث في الفكر الإسلامي والنهضة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس