سعيد الحاج - TRT عربي

وقعا طرفا الأزمة في ليبيا في الثالث والعشرين من تشرين أول/أكتوبر الجاري اتفاقاً لوقف إطلاق النار، بعد مفاوضات استمرت لخمسة أيام في جنيف برعاية الأمم المتحدة.

ففي الجولة الرابعة من المفاوضات بين وفدي اللجنة الليبية العسكرية المشتركة (5+5)، التي انبثقت عن مؤتمر برلين بداية العام، وقع وفدا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، اتفاقاً لوقف إطلاق النار بشكل “دائم وشامل” في عموم الأراضي الليبية.

ويتكوّن الاتفاق من خمسة مبادئ عامة و12 بنداً أهمها، وفق ما أعلنت المبعوثة الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز في المؤتمر الصحافي عقب التوقيع، دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بشكل فوري، وانسحاب قوات الطرفين من سرت والجفرة، ومغادرة جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأراضي الليبية في غضون ثلاثة أشهر.

كما ينص الاتفاق على دمج المجموعات المسلحة في مؤسسات الدولة الليبية في الاجتماعات القادمة للجنة (5+5)، وبحث لجان فرعية موضوع انسحاب العناصر المقاتلة من كافة جبهات القتال وإخراج المقاتلين الأجانب، والتزام الطرفين بإجراءات بناء الثقة مثل الرحلات الجوية وفتح الطرق وتبادل الأسرى وتجنب خطاب الكراهية. كما سيرفع الطرفان، وفق ويليامز، الاتفاق لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار ملزم منه بوقف إطلاق النار، وبما يتضمن استخدام العقوبات ضد من يعمل على عرقلته.

في ردات الفعل الأولية على التوقيع، رحبت أطراف كثيرة بالاتفاق داعية لأن يكون بداية صفحة جديدة في الصراع الليبي تنهيه قريباً، وفي مقدمتها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والاتحاد الأوروبي ووزير الخارجية الألماني هايكو ماس والناطق باسم الخارجية المصرية والسفير الروسي في ليبيا.

إلا أن الموقف التركي بدا وكأنه استثناء وسط الترحيب الدولي بالاتفاق، حيث بدت أنقرة متشككة في إمكانية تطبيقه. فقد قال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إن الاتفاق “ضعيف المصداقية” وإنه لم يبرم “على أعلى مستوى” وإن الوقت سيظهر “إلى أي مدى سيصمد” مؤكداً أن التطبيق العملي هو الأهم وليس التوقيع من خلال مثال الهدنة بين أذربيجان وأرمينيا.

فهل شذت  تركيا في موقفها؟ وهل هي غير راغبة في وقف إطلاق النار في ليبيا؟

من  الناحية المبدئية ليس في ثنايا الموقف التركي ما يشير إلى عدم رغبة تركيا في وقف إطلاق النار وليس في تصريح الرئيس التركي ما يوحي بذلك. الموقف التركي هنا يبدو تخوفاً من عدم تطبيق الاتفاق وبالتالي انهياره، وليس دعوة لذلك.

والتصريح هنا متناغم مع الموقف التركي من الأزمة الليبية منذ البدايات، حيث قالت أنقرة مراراً أن هدف دعمها لحكومة السراج المعترف بها دولياً هو تثبيتها ومنع سقوط طرابلس وبالتالي موازنة الموقف الميداني بحيث يمهّد ذلك الأرضية لحل سياسي. ولذلك، فرغم دعم تركيا لحكومة الوفاق إلا أنها لم تنخرط عسكرياً بشكل كبير ومباشر، ولا دعمت حرباً هجومية ولا سعت لما بعد خط سرت – الجفرة نحو الشرق، وإنما ساعدت في كسر الحصار عن طرابلس وإخراج قوات حفتر من الغرب بما حقق فعلاً توازناً في الميدان، يبدو أنه ساهم في الوصول للحظة الحالية.

وعليه، فالموقف التركي يبدو حذراً في الترحيب بالاتفاق، متوجساً ومتشككاً في نجاحه، ولكن على قاعدة الرغبة في نجاحه. أي أن التحفظ متعلق بالمضمون والتفاصيل والمآلات وليس المبدأ.

لكن، لماذا هذا التشكك التركي؟ أعتقد أنه يعود للأسباب الرئيسة التالية:

أولاً، الاتفاق ساوى ضمناً بين الطرفين، رغم أن أحدهما حكومة نتجت عن اتفاق دولي ومعترف بها دولياً والآخر قوة عسكرية حاولت الانقلاب عليها. كما أنه ثبّت المواقع الحالية لسيطرة الفريقين ولم يلزم قوات حفتر بالعودة لما قبل عمليتها العسكرية، فضلاً عن أن يخرج حفتر من معادلة الحل كما طالبت أنقرة سابقاً.

ثانياً، ترى أنقرة أن هناك علاقة طردية بين مستوى تمثيل الموقعين على الاتفاق وقدرته على الصمود. ولأن التوقيع لم يأت من السراج وحفتر وإنما من ممثلّيْن عسكريَيْن لهما، رأى اردوغان أن ذلك من المؤشرات غير المبشرة بنجاح الاتفاق ودوامه.

ثالثاً، ليس هناك ما يدفع لرفع سقف التوقعات بخصوص نوايا حفتر، ومن خلفه داعميه، إذ لديه سجل طويل من نقض الاتفاقات والانقضاض عليها حين يلمح إمكانية لتسجيل إنجاز عسكري. فضلاً عن أن خطواته نحو الحل السياسي حالياً أتت بعد الإنجازات الميدانية لحكومة الوفاق بعد أن كان ماطل وتهرب من التوقيع على وقف إطلاق النار في محادثات موسكو ثم مؤتمر برلين بداية العام.

رابعاً، تتضمن تجارب السنوات الماضية عدداً لا بأس به من الدعوات لوقف إطلاق النار والاتفاق على ذلك، إلا أن مصيرها جميعاً كان الفشل والعودة للاحتكام للميدان.

خامساً، تبدو تركيا حذرة من محاولة عدد من الأطراف التأثير على اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي أبرمته مع حكومة الوفاق، من خلال تصويره على أنه “اتفاق أجراه أحد طرفَيْ الخلاف قبل الاتفاق”.

ومما يزيد من الهواجس التركية البند الثاني في الاتفاق الذي ينص على “تجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب في البلاد”، وهي صياغة فضفاضة يمكن تفسيرها – وتطبيقها – بأكثر من شكل، فضلاً عن إعلان السراج سابقاً عن نيته الاستقالة قريباً، وهو أمر عبرت أنقرة عن “حزنها” إزاءه.

في الخلاصة، هناك تخوفات تركية لما يمكن أن يبنى على الاتفاق وخصوصاً لجهة الدور التركي في ليبيا، لا سيما وأن أطرافاً كثيرة تستهدف تركيا وتعنيها حصراً لدى الحديث عن التدخلات الخارجية أو نقل السلاح والأفراد وما إلى ذلك. وهناك تخوفات – لها مبرراتها – من أن يكون الأمر مناورة من حفتر وداعميه للالتفاف على التقدم الميداني الذي حققته حكومة الوفاق وتفريغه من مضمونه ومنع استثماره، تمهيداً للانقلاب عليه لاحقاً.

كما أن أنقرة تدرك أن هناك تحديات كبيرة أمام الحل السياسي الشامل في ليبيا، بدءاً من حالة العسكرة والتدخلات الخارجية مروراً بكيفية تقاسم عائدات النفط وليس انتهاءً بعدم الاتفاق على خطوات الحل السياسي والمحطات الانتخابية المنتظرة.

هذا القلق من المستقبل ليس مقصوراً على أنقرة، فالأمين العام للأمم المتحدة أشار كذلك إلى أن “هناك الكثير من العمل الشاق في المستقبل” في ليبيا بعد التوقيع، داعياً الأطراف الليبية إلى “الحفاظ على الزخم الحالي، وإظهار ذات التصميم في الوصول إلى حل سياسي للصراع”.

العبرة إذاً بالخواتيم كما يقال، وهو ما يفسر قول اردوغان إن “الأيام ستظهر مدى صمود” الاتفاق. فالكل يدرك أن الحل ليس بيد الفرقاء الليبيين حصراً، في ظل العدد الكبير من القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الأزمة. والحقيقة أنه لا يمكن توقع حل سياسي شامل وكامل ومستدام دون توصل هذه القوى الخارجية لتوافق ما حول الحل في ليبيا من منظور تأمين مصالحها.

وهي كلها سياقات ساهمت فيما يبدو في موقف أنقرة المتشكك من نجاح الاتفاق الأخير، رغم حرصها على استقرار الأوضاع في ليبيا والحل السياسي لأزمتها على قاعدة وحدة أراضيها ونظامها السياسي.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس