د. جمال نصار - خاص ترك برس 

يعيش العالم العربي والإسلامي حالة غير مسبوقة من الانكسار والتبعية لكل مخططات أعدائهم، بدون وعي، وأحيانًا بوعي وتربص، على جميع المسارات (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإعلامية، والثقافية). 

هذه الحالة ليست وليدة اللحظة، بل تم التخطيط لها منذ قرون، بعد أن تحولت النهضة والحضارة إلى العالم الغربي، بعد سقوط الأندلس. مع العلم أن الغرب كان عالة على كل منتوجات الحضارة الإسلامية أيام نهضتها وازدهارها على مستويات عدة علمية وثقافية وفلسفية وغيرها. ومن يتتبع ذلك عبر تاريخنا سيجد شواهد عديدة على ذلك.

أقول هذا الكلام بسبب حالة الانصياع والهرولة والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي بشكل هستيري، وتسليم كل مقدرات أمتنا إلى هؤلاء، بواسطة وسطاء لم يراعوا إلّا ولا ذمة في حاضر الأمة ومستقبلها، بل كل ما يشغلهم هو تمتين العلاقة مع الغرب، للحفاظ على كراسيهم الزائلة.

وإذا تتبعنا الأوضاع في العالم العربي كنموذج لغياب الرؤية والتخبط في السياسات، سنجد أن الأمور وصلت إلى حالة مزرية، بل وصل الأمر في كثير من الأحيان، إلى استقبال إشارات الغرب للتحرك من خلالها، والجور على الشعوب، وتضييع مقدراتهم في غير فائدة، والتربص بكل دعاة الإصلاح، مع الحرص على تغييب وعي الناس.

وفي هذا المقال أقف مع بعض النماذج التي تمثل نموذجًا صارخًا لهذا الواقع الأليم، ولها تأثير في الدول المحيطة بها. 

الواقع المصري وفشل الخيارات

ما حدث في مصر، ولا يزال، يؤكد أننا أمام حالة فجة في السعي بكل السبل لتفكيك الدولة من خلال سيطرة العسكر على كل مقدرات الأمور، فحينما ثار الشعب المصري على النظام السياسي الفاسد المستبد، لم يجد إلا الالتفاف حول مطالبه التي كان يأمل أن تتحقق من حرية، وعيش، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية. 

وتم معاقبة كل من قام بالتفكير والسعي لدولة مدنية ديمقراطية باختيار حر ونزيه، ووصل الأمر إلى التخلص من الرئيس المدني الذي اختاره الشعب بعد ثورة يناير، وتم قتل الألاف، وسجن عشرات الألوف في السجون وتطويع مرفق العدالة لخدمة السلطة المنقلبة على النظام الديمقراطي، ناهيكم عن التفريط في مقدرات الدولة من نهر النيل إلى تيران وصنافير، وغاز المتوسط، وإفقار الشعب المصري، وكبت الحريات، وتأميم النقابات المهنية، والجمعيات الخيرية، وتعقّب مؤسسات المجتمع المدني، إلى غير ذلك من تجفيف لكل المساعي التي تريد لمصر أن تكون دولة ذات سيادة ومستقلة في قرارها، بل وصل الأمر إلى تتحكم بعض الدول الصغيرة في قرارات مصر المصيرية.

وليست القوى السياسية المعارضة للنظام الحالي أحسن حالًا، سواء في الداخل أو الخارج. ففي الداخل قاموا بالوقوف ضد التجربة الديمقراطية، ولم يعطوها الفرصة لاستكمال مسارها الدستوري، وبرع العسكر في توظيفهم لكي يعود أكثر شراسة وأوسع عنفًا، باستخدام وتوظيف كل مؤسسات الدولة لتحقيق أغراضه.

وفي الخارج لا تزال المعارضة المصرية تتخبط، ولم تجتمع على رؤية بعد مرور كل هذه الفترة الزمنية، ولم تعتبر بكم الانهيارات التي وصلت إليها، وتقوقع كل فصيل يدافع عن خياراته، ولم يحسنوا في إيجاد تصور موحد لإقناع الشعب المصري بخياراتهم، أو التفاعل مع التغيرات الإقليمية والدولية. ومن ثمّ استفادت المنظومة الحاكمة، أيضًا، من كمّ الإخفاقات التي تقدمها فصائل المعارضة في الخارج على عدة مستويات.   

الدول الخليجية والسعي نحو التطبيع بدون مقابل

من التصريحات غير المفاجئة في هذا السياق الانبطاحي ما قاله وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان يوم السبت الموافق الثالث من أبريل/نيسان 2021 في مقابلة أجرتها معه قناة "سي إن إن" الأمريكية، أن التطبيع مع الاحتلال "سيكون مفيدًا للغاية اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا"، وذلك لعموم المنطقة!

هذا التصريح في غاية الخطورة، لأنه يمثل نقلة نوعية من التطبيع بعد انصياع العديد من الدول العربية لرغبات الرئيس الأمريكي السابق ترامب، الذي هيأ الأجواء لخدمة (إسرائيل)، ودفع بكل الإمكانيات لتسخير تلك الدول لمصلحة أجندة الغرب في المنطقة، وهي التمكين لـ (إسرائيل) على جميع المستويات.

وبطبيعة الحال قامت بعض هذه الأنظمة الخليجية، وخصوصًا السعودية والإمارات، بتلبية رغبات الغرب في المنطقة للتمكين للمحتل الإسرائيلي، والتطبيع معه في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية؛ على أمل أن يكون ذلك عاملًا مهمًا في تثبيت سلطتهم والسيطرة الكاملة على نظام الحكم في تلك الدول، وسار على نفس المنوال دول (البحرين والسودان والمغرب)، والبقية تأتي تباعًا.

كل هذا لغياب المشروع الوطني الذي يخدم الشعوب، التي تم استبعادها من المعادلة بشكل كبير، فنجد كل من ينادي بالتحذير من التوغل الصهيوني في المنطقة يتم محاربته، بل وصل الأمر إلى سجن العشرات من العلماء والمصلحين والفاعلين في مجال حقوق الإنسان، في السعودية والإمارات، خشية أن يكون لهم تأثير في تغيير المشهد لصالح الشعوب. 

وفي العموم تم استنزاف مقدرات تلك الدول، وتوجيه إمكانياتها لغير أهلها، وتمكّن أصحاب السلطة من كل شيء، مع تغييب الوعي، وإقناع الشعوب بأن النموذج المتمثل في الغرب هو الأفضل والأمثل، ومن ثمَّ وجب الانصياع له والسير على نهجه!  

هل من سبيل ومخرج؟

المسألة شديدة التعقيد؛ لأن الحالة التي عليها المنطقة العربية الآن، تم الترتيب لها منذ فترة طويلة، من خلال تقسيمها تبعًا لاتفاقية (سايكس بيكو)، والتمكين لكل من يسعى لخدمة الغرب وتحقيق أجندته، والسعي بكل السبل لمحاربة وتشويه المصلحين والداعين إلى الاستقلال الوطني، باستخدام أنظمة مستبدة لقهر الشعوب وتطويعها بكل الطرق، ومن ثمّ المسألة تحتاج إلى عدة أمور كبداية لتغيير المعادلة، منها: 

أولًا: الوعي الدقيق بخطورة ما وصلنا إليه، وهذا دور النخب السياسية والثقافية والإعلامية المخلصة التي تريد تغيير الواقع، لرفع منسوب الوعي لدى الشعوب، ومن ثمّ تكون تلك الشعوب هي الرافعة القوية للأفكار والسياسات التي تنهض بالمنطقة. ولذلك يحرص المستبدون على تغييب وعي الشعوب، ويسعون إلى إلهائهم بالقضايا التافهة من جانب، وشغلهم بالسعي على أرزاقهم طوال الوقت، حتى لا يفكروا في أي شيء يتعلق بمصيرهم، من جانب آخر.   

ثانيًا: إيجاد مشروع وطني يجمع شتات المصلحين والداعين إلى التمكين الديمقراطي للشعوب، في كل دولة، وهذا الأمر شديد الأهمية، لما له من دور كبير في توحيد الجهود للسعي نحو رؤية جامعة يمكن أن تجد الحلول للمشاكل التي تعاني منها المنطقة، وهذا الأمر لن يكون بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى وقت ونفس طويل، لأن المتربصين في الداخل والخارج كُثر، والتحديات كبيرة.  

ثالثًا: السعي بكل السبل للتخلص من مظاهر الاستبداد والفساد الذي تمكّن من مفاصل دول المنطقة، فالاستبداد، هو أكبر التحديات التي تؤثِّر على الدول، وبقدر الانعتاق من هذا الشر المستطير، بقدر التوجه نحو الإصلاح والتغيير، فمظاهر الاستبداد كثيرة، وتحتاج إلى معالجة الجذور، مع إيجاد البديل المناسب بالاستعانة بالخبرات في المجالات المختلفة، وهذا دور النخب الواعية لتغيير المعادلة. 

رابعًا: على الشعوب أن تعي خطورة السلبية واللامبالاة، وخصوصًا الشباب، نعم الضغوط كثيرة والتحديات كبيرة، ومع ذلك لا بد من انتزاع الحقوق، والقيام بالدور المطلوب كل في مجاله ومكانه، فالحرية لا توهب ولكنها تنتزع، والبداية تكمن في المعرفة التي ينبني عليها العمل الجاد للتخلص من كل القيود التي تكبِّل الشعوب، وأول هذه القيود هو الاستبداد الذي يتحكم في مقدرات الدول، وخيارات الشعوب.

خامسًا: التمسك بهويتنا العربية والإسلامية، مع الأخذ بكل أسباب النهوض، لأن المحاولات التي تُمارس من أجل تغييب الهوية كثيرة ومتنوعة، بحجة أن التمسك بالثوابت يقضي على الحاضر والمستقبل، ويذهب أصحاب هذه الدعاوى إلى أن السير خلف الغرب في كل شيء هو السبيل للنهوض والازدهار في جميع المجالات. ومن ثمّ الانصياع لمثل هذه الدعاوى يطمس هويتنا، وهذا ما يسعى إليه المستبدون الذين يسيطرون على مقاليد الأمور في منطقتنا العربية.   

خلاصة القول: أننا نحتاج إلى استعادة الرؤية الجامعة والصائبة في الاتجاه الصحيح، لكي نسير على بصيرة ووعي، لبناء نهضتنا بأيدينا لا بيد غيرنا، ولا بد من رفع منسوب الوعي لدى الشعوب على جميع المستويات، ولنعلم أن أساس التخلف والانهيار هو الاستبداد المستشري في مفاصل وطننا العربي، وأول الحلول الناجعة هو التخلص منه بكل الوسائل المتاحة.

وكما عبّر الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) بقوله: "الاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية... لأنه يقف على طرف نقيض من حرية الإنسان، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم بل إنه يشلّ طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن سعيه للمجهول، ويجعله أسيرًا بيد الجهل والتخلف". 

عن الكاتب

د. جمال نصار

كاتب ومفكر مصري، أستاذ الفلسفة والمذاهب الفكرية المشارك في جامعة اسطنبول صباح الدين زعيم، وباحث أول سابق في مركز الجزيرة للدراسات بالدوحة.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس