د. علي حسين باكير - عربي 21

خلال العامين الماضيين، أحدثت المُسيّرات الهجوميّة التركية تحوّلاً في عالم المُسيّرات والعقيدة القتالية، لاسيما فيما يرتبط بالعلاقة بينها وبين مسارح الحروب. لم تكن تركيا الدولة الأولى التي تطوّر وتنتج هذا النوع من المسيّرات بالطبع، فقد سبقتها قائمة طويلة من الدول الأخرى. عُرف عن الولايات المتّحدة السبق والتفوّق في هذا الميدان على المستوى الدولي، وكانت إسرائيل الأولى إقليمياً في مجال تطوير المسيّرات واستخدامها، ثم دخلت الصين أيضاً كمنافس ثقيل الوزن لواشنطن دولياً، لكنّ دخول أنقرة إلى هذا الميدان كان له وقع مختلف تماماً. 

في بداية العام 2020، أدمجت أنقرة مسيّراتها الهجومية في معركة شبه تقليدية مع قوات نظام الأسد والميليشيات الموالية لها، وبسبب القيود المتعلقة بإمكانية إستخدامها لمقاتلات أف-16، قامت أنقرة باستخدام مسيّراتها الهجومية كسلاح جو بديل عن المقاتلات النفّاثة. كانت هذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها استخدام المسيّرات الهجومية بهذا الشكل في معركة من هذا النوع. لقد كانت الهجمات فتّاكة ودقيقة جداً، ولم تستطع أنظمة الدفاع الروسية المخصّصة لاعتراض وإسقاط المسيّرات قادرة على إيقافها لدرجة أنّ المسيّرات التركية كانت تتصيّد هذه الأنظمة حتى عندما كانت راداراتها فعّالة.

لقد دشّنت معركة "درع الربيع" التي أطلقتها تركيا في شباط/ فبراير من العام 2020 ضد نظام الأسد والميليشيات الموالية له، عقيدة عسكرية جديدة تنطوي على استخدام مختلف للمسيّرات الهجومية. لم تكن هذه المعركة استثناءً، اذ حسمت المسيّرات التركية الهجومية فيما بعد معارك عنيفة في ليبيا وأذربيحان وقلبت الموازين وغيّرت المعادلات فور دخولها. 

هناك شيء مرتبط بالمسيّرات الهجومية التركية لم تسبقها إليه أي دولة أخرى بما في ذلك الولايات المتّحدة الامريكية. لم يسبق لأي مسيّرة هجومية تابعة لأي دولة في العالم أن دمّرت هذا الكم الهائل من المدرعات والدبابات والمدافع والراجمات والرادارات وأنظمة الدفاع الجوي بما في ذلك تلك المخصصة لإسقاط المسيّرات كنظام (بانتسر) الروسي وحتى أنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطوراً كنظام (أس-300) الروسي أيضاً. 

أن تظهر المسيّرات الهجوميّة التركية على الساحة، لم يسبق لأي مسيّرة تابعة لأي دولة أن أذلّت الصناعة العسكري الروسية بالشكل الذي قامت به المسيرات التركية، خاصّة أنّ موسكو كانت حاضرة في جميع الساحات السورية والليبية والأرمينية. لقد دفع ذلك روسيا مؤخراً إلى دراسة الخيارات التي يمكن من خلالها تعطيل فعالية المسيّرات التركية من خلال إدماج تكنولوجيا جديدة في أنظمتها الدفاعية او ابتكار مسيّرات انتحارية لاعتراض المسيّرات التركيّة.

أطلقت ثورة المسيّرات التركيّة نقاشاً عميقاً في أوروبا. بعض الدول الأوروبية كبريطانيا على سبيل المثال عبّرت عن إعجابها بأداء هذه المسيّرات ودقّتها وفعاليتها، لكن البعض الآخر حذّر من مخاطرها إزاء تمكين تركيا عسكرياً ومساعدتها على مد نفوذها خارج حدودها. بعض الدول الأوروبية أعادت النقاش حول ضرورة أن تطوّر أوروبا قدرات مماثلة سيما أنّها تبدو متأخرة أمام ما أظهرته المسيرات التركية من نتائج في وقت قصير. 

لكن اللافت للإنتباه أنّ بعض الدول الأوروبية لاسيما تلك التي تشعر بالتهديد المباشر لروسيا بدأت تبدي اهتماماً متزايداً باقتناء المسيّرات التركيّة لاسيما بعد الأداء الذي قدّمته في الساحات الثلاث. أوكرانيا حصلت فعلياً على بعض المسيرات التركية (بيرقدار) وتعمل على تطوير شراكة متقدّمة في مجال الصناعات الدفاعية مع أنقرة. علاوةً على أوكرانيا، فإن هناك سلسلة من الدول الأوروبية التي عبرت عن رغبتها بشكل علني بالحصول على المسيرات التركية من بينها دول قريبة من روسيا مثل صربيا. 

لكنّ اللافت للانتباه كان تغريدة لوزير الدفاع البولندي قبل عدّة أيام مرفقة بصورة لمسيّرة بيرقدار التركية وفي أعلاه تعليق أشار فيه إلى إنتظار أخبار سعيدة. إذا كان ذلك يعني أنّ بولندا اتفقت مع تركيا على شراء مسيّراتها، فستكون سابقة في الاتحاد الأوروبي. لن يضمن ذلك لتركيا نفوذاً سياسياً فحسب، بل سيزيد من قيمتها كقوة سياسية وعسكرية في أعين الأوروبيين. 

قبل بولندا، كان هناك مؤشرات على أنّ بلغاريا ورومانيا ودولاً أوروبية أخرى تدرس إمكانية شراء المسيّرات التركية. رومانيا وبولندا بالتحديد لديهما آلية تنسيق مشتركة مع تركيا، وتعقدان اجتماعات ثلاثية بشكل دوري منذ سنوات. وتشكّل هذه الدول الثلاث جبهة حلف شمال الأطلسي الشرقية في مواجهة روسيا. ويغطي المثلث الآخر (تركيا ـ رومانيا ـ بلغاريا) غالبية المساحة الساحلية في البحر الأسود. هذا يعني أن تطوير تعاون عسكري أقوى بين هذه الدول، سيجعل من تركيا دولة محورية مجدداً للناتو والاتحاد الأوروبي معاً.

باختصار، إن نجحت بولندا بالحصول على المسيّرات التركية، فستكون أوّل دولة في الاتحاد الأوروبي تحصل عليها، لكنّها بالتأكيد لن تكون الأخيرة.
 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس