ياسر سعد الدين-خاص ترك برس

حين سقطت بغداد في براثن الاحتلال الأمريكي ربيع 2003، تحدثت كونداليز رايس مستشارة الأمن القومي عن ولادة شرق أوسط جديد. الحديث وقتها عن إعادة رسم المنطقة وعن خرائط جديدة لها تكرر مرارا في مراكز الأبحاث السياسية الغربية وفي دوائر صنع القرار. لم يكتف الغرب بتقسيم دولنا في مرحلة ما بعد سايكس بيكو، بل أرادوا ومن خلال سياسة متعمدة تفتيت المفتت وتجزئة المجزء، فمقومات النهضة في الدول الكبيرة وذات السكانية المرتفعة أكثر حظا من الدول الصغيرة ذات القوة البشرية المحدودة، وهو أمر يتعارض مع المصالح الغربية فتقاومه بضرواة.

شكل العرب السنة العمود الفقري في منطقتنا، فبالإضافة إلى أنهم يشكلون النسبة الساحقة من سكانها فهم يتقاطعون مع الأكراد في المذهب ومع المسيحيين في القومية ومع  الشيعة في الدين. يشكل السنة عمود أية نهضة في المنطقة ورافعتها الأساسية، ومع النهوض التركي يمكن ولادة عملاق جديد في المنطقة، أمر غير مرحب فيه غربيا ودوليا وبأي شكل أو طريقة، كان إشعال المنطقة عرقيا وطائفيا ومذهبيا وما يزال هدفا غربيا ودوليا بشكل عام وأمريكي بشكل خاص.

شكل إغراء واشنطن لصدام حسين دخول الكويت المصيدة والتي أنطلقت منها الخطوات التنفيذية لتفتيت المنطقة وإعادة رسم حدودها بطريقة تبقى الصراعات ملتهبة والحدود مشتعلة مما يفتحها على مصراعيها للتدخل الأجنبي ينهب خيراتها ويحتفظ بها سوقا استهلاكيا تستورد كل شيء وتصدر فقط المواد الخام والعقول والكفاءات والخبرات والمهارات والتي تلقى في الغرب كل ترحيب وتقدير على المستوى الفردي والشخصي.

ما قبل احتلال العراق وفي إطار التحريض الطائفي والذهبي تم تقسيم العراق لثلاثة مناطق، وتم تبنى الحديث عن مظلومية الشيعة. وحين أُحتل العراق تحدث بريمر حاكم العراق الأمريكي عن التسلط السني لمئات السنين على المكون الشيعي بالرغم من الغالبية العظمى من المطلوبين العراقيين من مساعدي صدام ال 52 والذين شكلوا لعبة الورق/الشدة (التعمد بتحويل مستقبلنا لورق لعب) كانوا من الشيعة.

حديث بريمر الملغوم كرره بعد نحو عقد من الزمان وزير خارجية روسيا لافروف حين علق على الثورة السورية والتي بدأت وطنية بامتياز بأن روسيا لن تسمح بأن يحكم السنة (وهم الأكثرية الساحقة) سوريا. هناك شبه إجماع دولي على إقصاء السنة وتهميشهم، فنهوض السنة وبناء نهضة علمية وأنظمة ديمقراطية يزعج الغرب والشرق والذين لا يرون في منطقتنا سوى مناطق نفوذ يتنازعون عليها، وموارد طبيعية وافرة يتقاسمون نهبها وأسواقا استهلاكية يتنافسون عليها.

فُرض على السنة حكام يوصفون بأنهم معتدلون والاعتدال بالمفهوم الغربي هو اعتلال في بلادنا وعلى جميع الأصعدة، بعد ذلك تمت رعاية الإسلام "المتطرف" والمشاركة الفعالة في تكوين القاعدة وداعش (أو على الأقل في المساهمة في انتشارهما)، لتكون تلك الجماعات ونظيراتها، ذريعة القوى الدولية لتدمير المنطقة والإمعان في تفتيتها ولتحويل سكانها السنة الى لاجئين ومشردين، ولتختصر قضايانا في النهضة والتطور إلى قضايا إنسانية بائسة. وليكون أمام شعوبنا خياران لا ثالث لهما بعد أغتيال الربيع العربي والتجرية الديمقراطية في مصر: إما جماعات عدمية دموية أو أنظمة فاشلة فاسدة ولكنها تبقى أقل سوءا من الخيار العدمي.

الحديث عن صناعة القاعدة وداعش والترويج لهما عليه أدلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ولكن على سبيل المثال، نذكر بأن الخارجية الأمريكية في 2003 احتجت على قنوات عربية أخبارية لبثها شريطا لملثمين عراقيين قالوا أنهم من المقاومة العراقية مهددين بتصفية أعضاء مجلس حكم بريمر (25 عضوا) فيما لا تبالي الخارجية الأمريكية على الإطلاق ببث  أشرطة أسامة بن لادن والذي كان يهدد فيها بقتل الأمريكيين وبالجملة.

وحين عقد نظام الأسد وحزب الله صفقة مع مقاتلي داعش في القلمون وانتقلت بهم الباصات في الصحراء السورية، حذر نصر الله طائرات التحالف من استهدافهم على أساس أن الرجل حريص على النساء والأطفال والذين كانوا معهم فيما يقول المنطق غير ذلك ليكشف درجة الاختراق لداعش. وحين بثت قناة الجزيرة في صيف 2019 برنامج ما "خفي كان أعظم" والذي كشف بالوثائق التنسيق والدعم البحريني الرسمي وعلى أعلى المستويات للقاعدة، لم نسمع تعليقا ولو على استحياء ولا أقول تنديدا من أية جهة رسمية دولية على تلك الحقائق المرعبة، فلماذا؟ وأين هي محاربة الإرهاب والقاعدة؟؟ نفس عدم اللامبالاة حصل حين كشف تحقيقا ل CNN بثته في فبرابر 2019، على أن اسلحة أمريكية متطورة انتقلت في اليمن من الإمارات والسعودية لتكون في يد جماعات القاعدة.

السعي لتهميش السنة شمل رموزهم وعلمائهم، فأصحاب الفكر المعتدل الوسطي والقبول الشعبي في السجون بغير تهم ولا محاكمات، وفي وقت يتم تجاهلهم بشكل شبه تام رسميا بل وحتى من منظمات حقوق الإنسان في الغرب، يجبر آخرون منهم على آخذ مواقف تحت تهديدات قد تمس أعراضهم للمشاركة بانشطة وضيعة أو الهتاف لسفاح مجرم لهز صورة علماء السنة ومكانتهم، وبالتالي لينعكس الأمر بمجمله سلبا على أهل السنة.

ولتكتمل صورة التمزيق، تم الدخول دوليا وإقليميا على خط قضية يُجمع العرب والمسلمين عليها، وتهوى القلوب إليها، لتحويلها من قضية تشكل أمل السنة في النهوض إلى فخ جديد يريد الإمعان في تمزيق السنة وإذلالهم: القضية الفلسطينية والمقاومة. ففي الوقت الذي حوصرت فيه غزة حصارا شاملا وخانقا ومنعت الشعوب من مساعدة أهل غزة ووقف حكام محسوبون على السنة مواقف مخزية ومهينة من الاحتلال وصفقة القرن والتطبيع، سُمح بشكل متعمد لإيران -والتي ولغت في دماء السنة وفي تهجيرهم وتدميرهم- بمد يد المساعدة والمساندة للمقاومة ماليا وتقنيا ولوجستيا.

في الحرب الأخيرة كما قبلها، وقف المقاتلون الفلسطينيون موقفا أسطوريا، ولإول مرة يشعر العرب بالكرامة خصوصا مع تطور قدرات المقاومين، وما كاد شعور العزة يسكن القلوب المتلهفة والمتعطشة له، حتى دمره وبفظاظة مواقف مؤلمة لقادة من حماس وتهافت لا يليق بتوجيه الشكر  المتعجل لإيران رغم أن مواقفها وحزب الله من الحرب الأخيرة كان أقرب للخذلان والخور.

الأمل المتبقي لجماهير السنة والذي كان في فلسطين في الشعور بصوابية الهدف والمسار، بعيدا عن فبركة الإرهاب وجماعتها، تحول لخيبة أمل كبيرة وأنقسم السنة مجددا بين من يعذر حماس على مواقفها مع الحصار الذي وقع عليها ومن يحذر من أن أنتصارها قد يكون في نتائجه أشبه بانتصار أتاتورك في حرب الاستقلال لتمهيد لتغييرات تشمل العقيدة والمقاربة والفكر، ويتساءلون:

• هل هي مقاومة تلك التي تمتدح إيران وسليماني وهم من قتل وأغتصب وهجر ونهب ودمر من أهل السنة أكثر مما فعل الصهاينة ؟؟

• وهل هم أصحاب مبدأ وأخلاق وقيم أولئك الذي يلوثون "أنتصاراتهم" بمديح بشار الكيماوي والذي يعرف الجميع أن الصهاينة لا يرون عنه بديلا؟

• وهل هي مواقف سياسية أن تشكر حركة مقاومة من أحرق رابعة وعدوية وأتهم الرئيس الشهيد مرسي رحمه الله بالتخابر معها وتم التخلص منه لإنه وقف معهم ومع غزة قلبا ودعما ودفع ثمن ذلك دمه وروحه؟

من الواضح أن خيارات حماس هي بين المر والعلقم، ولكن من البين أيضا أن الحركة تم استدراجها للحكم وللتعامل مع عالم لا يرحم وتم إغراؤها بالكثير من المصائد والأفخاخ. تشارك الآن حماس من حيث علمت أو جهلت في الإمعان في تمزيق الصف السني المنهك بعد أن أرتضى تيارا فيها أن تكون دماء الفلسطينين ومستقبلهم واحدة من أدوات السياسية الإيرانية والتي تحمل من الأحقاد والضغائن على السنة ما تنوء به المحيطات والجبال. 

على العقلاء في غزة أبطاء اندفاع تيار إيران وقاسمي في الحركة والتي لها مكانة كبيرة في الضمير العربي الشعبي وتجنيبها الظهور بمظهر قوات بلاك ووتر إيرانية، فمن يتخيل أو يتصور أن دولة استخدمت اسم القدس لتشكل فيلقا يدمر مدن السنة وحواضرهم ومساجدهم بوحشية طوت وحشية التتار والمغول وتجاوزتهم هي حليف مؤتمن أو صديق وفي، يحتاج إلى جلسة تأديب وتوجيه وتربية من الشيخ ياسين رحمه الله. 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس